كنا في مثل هذا الوقت من ديسمبر 1955م حققنا السودنة والجلاء بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان وهي إنجازات كبيرة مهمة وكان الحزب الحاكم الذي تحققت في عهده هذه الإنجازات هو الحزب الوطني الاتحادي الذي يقوده الزعيم إسماعيل الأزهري ثم سرعان ما دبت في صفوفه الانشقاقات. فقد خرج منه ثلاثة من وزرائه هم ميرغني حمزة وخلف الله خالد وأحمد جلي وأسسوا حزبا آخر هو حزب الاستقلال الجمهوري لكنه لم يعش سوى بضعة شهور وأصبح نسيا منسيا. وبعد شهور قليلة من رفع العلم وإنزال علمي دولتي الحكم الثنائي بريطانيا ومصر انشق عنه - أي عن الحزب الوطني الاتحادي - بعض كبار قادته من أمثال الشيخ علي عبدالرحمن وحماد توفيق ومحمد نور الدين والخ، وكان معهم الشاب الخطيب المتألق المحامي الدكتور أحمد السيد حمد ليؤلفوا حزب الشعب الديمقراطي. وألقت طائفة الختمية بكل ثقلها الديني والمالي في هذا الحزب الجديد الذي أخذ يرعاه السيد علي الميرغني وأصبح رئيسه هو الشيخ علي عبدالرحمن وأمينه العام هو الدكتور أحمد السيد حمد. وإذن انقسمت الحركة الاتحادية عند بدايات الاستقلال في عام 1956م إلى حزبين هما الوطني الاتحادي برئاسة الزعيم الأزهري والشعب الديمقراطي بزعامة الشيخ علي عبدالرحمن وبينما أصبح الحزب الأول متحررا تماما من الطائفية فإن الثاني كان غارقا فيها إذ كان راعي الحزب وما أدراك ما راعي الحزب هو مرشد الختمية السيد علي الميرغني واقتصرت طائفية الحزب على الرعاية ولم تمتد إلى الرئاسة. وعلى الجانب الآخر كان حزب الأمة أكبر الأحزاب المعارضة في ذلك الوقت من منتصف الخمسينيات هو الأكثر طائفية فقد كان راعي الحزب هو السيد عبدالرحمن المهدي ورئيسه هو نجله السيد الصديق المهدي. وكان الاستعمار في فترة حكمه التي امتدت من عام 1898م إلى منتصف خمسينيات القرن العشرين حقق بعض الإنجازات مثل السكة الحديد ومشروع الجزيرة وكلية الخرطوم الجامعية التي أصبحت بعد الاستقلال جامعة الخرطوم والخدمة المدنية التي كانت توصف بأنها الأفضل في أفريقيا ونشأت في عهد الاستعمار مدينتان هما بورتسودان وكوستي وعرف الناس كرة القدم. لكن البعض يرون أن هذه الإنجازات قليلة قياسا إلى طول فترة الحكم الاستعماري وإلى ما تحقق في بلدان أخرى استعمرتها بريطانيا. ويقولون إن حكمهم كان بصفة عامة عادلا خاليا من الفساد لكن ذلك لا يبرر الاستعمار الذي هو أتفه وأحقر ما يمكن أن يفعله شعب في حق شعب آخر وليس هناك أي معنى للادعاءات الكاذبة المغرورة التي من شاكلة عبء الرجل الأبيض ومسؤولياته الحضارية الأخلاقية نحو الآخرين ثم إن الاستعمار وليست هذه محاولة لإعفاء الحكم الوطني من المسؤولية هو الذي كان صاحب الدور الأكبر في تفاقم مشكلة الجنوب واستمرارها وقابليتها لأن تصبح مشكلة عويصة تهدد استقرار الوطن وتستنزف موارده ثم تنسف في النهاية وحدته شعبا وترابا. وكان أمام آباء الاستقلال منذ البداية الكثير من المشكلات فهناك الجنوب والتخلف والأمية ونظام الحكم وهشاشة التركيبة الوطنية وكان الأداء في هذه المجالات ضعيفا والإنجاز قليلا والذين يقولون إن الجيش لم يتح لهم الوقت الكافي لمعالجة هذه المشكلات يتعامون عن حقيقة مهمة هي أن الجيش ما كان أصلا ليأتي للسلطة لو أن الحكومات كانت مقنعة واعدة مبشرة سواء في 17 نوفمبر58 أو 25 مايو 69 أو في 30 يونيو 1989م هذا فضلا عن أن رئيس الوزراء والأمين العام للحزب الأكبر في الحكومة العميد عبدالله خليل هو الذي قلب الحكومة بنفسه بمباركة أقوى اثنين في تلك الحكومة وإن لم يكونا من وزرائها وهما إمام الأنصار السيد عبدالرحمن المهدي وزعيم الختمية السيد علي الميرغني.