{ اليوم ذكرى أخرى تضاف لاستقلال بلادنا ويوم أول في عام جديد وفي البال خلفيات كثيرة ومتداخلة وربما معقدة تحيط بالبلاد لظروف في الغالب هي ظروف خارجية وأخرى خارجة عن الإرادة ولكن المهم دوما هو قدرة بلادنا على تجاوز كل ذلك وهذا في الأساس يتطلب عوامل كثيرة منها ما يتصل بالشعب ودرجة الوعي التي يتحلى بها ومنها ما يتصل بالنخب السياسية على صعيد الحكم والمعارضة ودرجة الإدراك التي يجب أن تتحلى بها وفي المقابل فإن النخب الأخرى في مختلف الميادين لها مطلوبات مهمة هي بالتأكيد مغايرة تماماً لما يجري أو ما يقدمونه الآن من جهد وبذل لا يرقى لمستوى بناء الأمم وإنما يفضي إلى هذا العك الذي نشاهده في الرياضة وفي المناهج الدراسية وفي الفنون والآداب والثقافة وفي الصناعة والزراعة والسياسة وفي الصحافة وفي حياتنا الاجتماعية التي ما زالت ظالمة وقاهرة وساذجة ورتيبة وبعيدة كل البعد عن المجتمعات المتحضرة ما دامت تقوم على مفاهيم ربما يصنعها جهلاء. { الاستقلال لم يكن الحدث الأكبر ولا التحدي الأبرز وقد كان الاستقلال حالة عالمية وتطوراً طبيعياً للعلاقات الدولية والمفاهيم التي بدأت تتسرب إليها ولهذا جاء متواتراً وفي حقبة واحدة وسنوات معدودة وقد ناله حتى من لم يسع له ويناضل من أجله مثل الثورات العربية التي أشعلها البوعزيزي حين أشعل النار على جسده ولهذا نقول إن الثورة في السودان لم تكن (موضة) وإنما كانت ثورة حقيقية جاءت مبكراً وسبقت الثورات العربية بنصف قرن من الزمان وكررنا الثورة بعد ربع قرن لنسبقهم ثانية بربع قرن ولهذا أرى في ثورتي أكتوبر وأبريل عملاً مجيداً وصناعة حقيقية. { نعم هناك كفاح ونضال قاده جيل الاستقلال حتى تحقق لهم حلمهم ونالت بلادنا استقلالها ضمن الأمم وحركات التحرر التي انتظمت القارة السمراء ولكن كان التحدي ولا زال هو قدرتنا على بناء الدولة والمجتمع وهذا ما عجز عنه جيل الاستقلال وقد انشغلوا بصراعاتهم الحزبية والسياسية ولم يلتفتوا للفرصة التاريخية التي كانت بين أيديهم لبناء السودان وقيام مؤسسات الحكم ونشر الوعي لدى عامة المواطنين والإدراك لدى كافة النخب حتى ينطلق مردودها من إدراك عميق بالمطلوبات كافة وأن يتناغم كل ذلك مع بعضه البعض ويخدم هدفاً واحداً ولكن للأسف هذا ما لم يحدث وقد كان هذا هو التحدي الحقيقي والذي يتمثل في قدرتنا على حكم بلادنا أو فشلنا في ذلك. { المطلوب الآن ليس أن نفرح بالاستقلال فهذا قد حدث قبل نصف قرن وصرنا نفرح طيلة هذه السنين وإنما المطلوب دوماً هو بناء أمة سودانية قوية وناهضة تستكمل في داخلها كل المعاني الوطنية وتستجمع قواها وأطرافها على نحو من العدل والتنمية المتوازنة وصياغة وجدان وهوية سودانية تستوعب الجميع وأن نصنع من التنوع الذى ننعم به مصدراً للقوة والجذب الثقافي والفكري والمزاج العام وروعة الحياة وجمالها وأن يكون كل ذلك مدعاة ليحلم الناس بمستقبلهم بالطريقة التي يريدونها وأن يكون ذلك متاحاً وممكناً. { تمر هذه الذكرى والأشرار من بني جلدتنا ما زالوا يعرضون أمن واستقرار بلادنا للخطر والعقلاء من المعارضين للأسف يتبعونهم والسياسيون يستحيل بينهم التوافق على برنامج وطني يعصم البلاد من شرور أولئك وأطماع القوى الخارجية التي تقف من خلفهم ولهذا فإن للاستقلال في بلادنا برامج ومشروعات لم تستكمل ما دام هناك من يرمي بنفسه في أحضان المستعمر ويستقوي به وبذلك أن المهمة الأولى لمن يريد لأمتنا أن تستكمل استقلالها أن تحرر هؤلاء من قيود الاستعمار أو تردعهم وبخلاص بلادنا من هؤلاء تكون بلادنا بدأت تستكمل استقلالها ويمكن من بعد ذلك أن تنطلق وتستثمر مواردها وطاقاتها وتبني مجدها وتصنع رفاه شعبها ونهضته والحياة الكريمة التي يستحقها وكل ذلك لن يتأتى بدون وعي الشعب وإدراك النخب لمطلوباتها.