{ جولات الدمج والفصل بين هيئتي الإذاعة والتلفزيون ظلت تتابع على مدى العقدين المنصرمين، وفي كل مرة لدعاة الدمج ولدعاة الفصل منطق يطرحونه على القيادة السياسية فتشرع في الاستجابة تفصل أو تدمج، وهكذا يتواصل هذا المسلسل والحال كما هو، وعدم الرضاء من القيادة السياسية على الإذاعة والتلفزيون هو الثابت الوحيد الذي لا يتغير أبدا، وهذا وحده ما يجعلنا نوقن أن المشكلة لا تكمن في عمليات الفصل أو الدمج، وإنما في مواطن أخرى تحجبها هذه العمليات السهلة، وهي إما أن تدمج أو تفصل، وبذلك لا تمتد المعالجات إلى أس المشكلة. { من أبرز الأسباب التي يطرحها دعاة الدمج هو توحيد الخطاب الإعلامي وتصويبه نحو أهدافه الأساسية، وهذا السبب يمكن أن يكون منطقياً لو أننا وجدنا إحدى هاتين الهيئتين (الإذاعة والتلفزيون) تنال الرضاء من الدولة والمجتمع وتحقق أهدافها دون الأخرى، وبذلك تستطيع الهيئة الناجحة اصطحاب الفاشلة، بالإضافة إلى أن توحيد الخطاب الإعلامي لا يقوم على توحيد القيادة وإنما يقوم على قدرة قيادة هاتين الهيئتين والعاملين فيها على التقاط التوجهات والأهداف والسياسات وتحويلها الى برامج إذاعية وتلفزيونية، لاسيما وأن ما تنتجه هذه الهيئات هو منتج إبداعي تتسلل إلى تفاصيله الأهداف المنشودة وتتم معالجتها على نحو دقيق من المهنية والاحترافية، وبذلك يسقط منطق الدمج الذي يقوم على افتراض توحيد الخطاب بتوحيد القيادة. { وقد تبلورت في فترات سابقة أفكار كلها تجري في اتجاه توحيد الخطاب وبالذات في جانب الأخبار والشؤون السياسية، وقد طرحت بعض الأفكار التي كانت تنادي بقيام هيئة للأخبار والشؤون السياسية، ولكن بحمد الله أن مثل هذه الأفكار لم تتقدم إلى الأمام لأنها لا تشكل حلولاً جذرية للمشاكل التي يعاني منها الخطاب الإعلامي لهاتين الهيئتين، كما أن المشكلة الأساسية ليست هي توحيد الخطاب وإنما ضعف الخطاب نفسه الذي يركز في الأساس على الأخبار والبرامج السياسية ويغض الطرف عن المجالات الأخرى التي يمكن أن تدعم الخطاب الإعلامي سياسياً بشكل أفضل من الأخبار والبرامج السياسية التي تتسم بالمباشرة والمعالجة الآنية، في حين أن الجوانب الأخرى مثل الدراما والمنوعات والبرامج التعليمية والتربوية وغيرها من الأشكال التلفزيونية والإذاعية تضع معالجات إستراتيجية وذات تأثير كبير بفضل ما تملكه هذه الأشكال من أدوات فنية وخيالية تملك قدرة هائلة للتأثير على المشاهدين والمستمعين. { الإعلام في كل بلاد الدنيا يتقدم أداء الحكومات بمراحل ويعمل علي تكملة (الناقصة) ويستر (عورات) الضعف والإخفاق الذي تعاني منه برامج الدولة وسياساتها، إلا في السودان نجده يتأخر عن الأداء الحكومي وبالذات في جانب الإنجازات وهو يظهر عجزا واضحا في تغطية أنشطتها، مما ساهم في تفاقم الكثير من المشكلات وأفسح المجال للمحطات الأخرى لتملأ الفراغ الذي خلفه الإعلام الوطني الرسمي. { الإخفاق الذي يحدث في هاتين الهيئتين ليس له علاقة بدمجهما أو فصلهما، وسيتواصل ذات الإخفاق في ظل الدمج الذي نحن بين يديه الآن ما لم تجر عملية تشخيص دقيقة للمنتج من خرائط وبرامج وما يقف خلف هذه الأنشطة من تجهيزات على مستوى الكادر والمعدات وبيئة العمل ووضوح الرؤية التي يقوم عليها العمل الإذاعي والتلفزيوني، ويجب كذلك الدفع بعدد من المبدعين، وهنا لا أقصد السابقين في هذا المجال، فهؤلاء هم الذين أسسوا لهذا الوضع الذي نشتكي منه ويدفع بنا تارة تجاه الدمج وتارة أخرى تجاه الفصل، وبذلك أقول إن مشكلة التلفزيون والإذاعة هي مشكلة قديمة نشأت معهما حين عبر إلى هاتين الهيئتين كوادر للأسف لم تكن تتحلى بالإبداع والمبادرة، بالرغم من التأهيل الخارجي الذي وجدوه فقد هزمتهم قدراتهم العادية فرسخت من ذلك الزمن معايير للإبداع وسقوفات منخفضة سارت على هداها الأجيال التي تعاقبت على التلفزيون والإذاعة، وذات المشكلة كان التلفزيون اللبناني يعاني منها وقد فشلت كافة المحاولات للنهوض به مما اضطرهم أخيراً للتخلص منه وإنشاء محطات أخرى تستوعب الإبداع الذي تبثه القنوات اليوم. { هل يعلم الناس أن كل فيلم صنفته لجان التلفزيون على أنه لا يصلح نجده نال جوائز من المهرجانات الدولية (هناك أكثر من فيلم) وهل يعلم الناس أن فوزي بشري أفضل من يكتب التقارير التلفزيونية على مستوى الوطن العربي حينما تقدم للعمل بالتلفزيون السوداني صنفوه على أنه لا يصلح للعمل التلفزيوني، فإذا هو يتقدم للجزيرة فتنال به أفضلية التقارير التلفزيونية. { المسألة أعمق من الدمج والفصل، وهذا ما يجب أن نبحث عنه قبل أن نعود بعد حين ونفصل الهيئتين من جديد.