{ والدراويش يزحمون الآفاق.. يتعالى صوت (النوبة) هادراً بدوي يخلع القلوب ويحرك سكون الروح.. فإذا بنا جميعاً يتحرك وجداننا من الاتجاهات الأربعة ونحن نتوه في ذلك الزحام الذي لا يترك لنا فرصةً للتفكير كونه يشغل جميع حواسنا بالرهبة والقلق فينتابنا شعورٌ غريب بالبساطة والضآلة كوننا نتحلل من كل أمراض العصر ونعراتنا القبلية والنفسية ونصبح فقط مجرد (حيران) في حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم شفيعنا ومعلمنا وإمام المتقين. { هو المولد النبوي الشريف.. بعيداً عن جدل الابتداع وتحفظات البعض على مظاهر الاحتفال به، فقد أصبح – على حسب تقديري – الملمح الوحيد الذي لم يتغول عليه الزمن ولا فقد شيئاً من حميميته وصدقه بأعماقنا. والشاهد أنك كلما ارتدته وجدت جموع العاشقين الغفيرة بمختلف فئاتهم وأعمارهم يتجولون في ساحاته مدفوعين بما هو أقوى من ظروفهم وإرادتهم للحضور والتحلق في حلبات الذكر.. ليكون بذلك واحداً من أبرز المظاهر الاجتماعية والمناسبات الدينية التي ظلت محتفظة برونقها وبهائها رغم تغول المدنية والانفتاح العالمي والمؤثرات الخارجية والعادات الدخيلة. { هو المولد...سر الليالي وسحر الأمكنة وعبق التاريخ ورائحة البخور وضباب الأتربة الذي يلف الجميع فيوحدهم على اختلاف مظاهرهم الخارجية وسحناتهم وأوضاعهم الاقتصادية ودرجاتهم العلمية. هناك.. حيث لا مكان لتزلف أو رياء أو محاباة لأحد.. حيث الكل منشغل بالفرجة والتسبيح والتهليل والصلاة على الرسول الكريم.. حيث الأطفال يتراكضون دون خوف والفرح البريء يتراقص في عيونهم يمنون النفس بالحلوى طيبة المذاق غالية المعنى والمضمون.. الحلوى التي لم تتغير ولم يتبدل طعمها في أفواهنا برغم ما فقدناه من سنين وأسنان عددا حتى بتنا على مشارف الكهولة ولا يزال في القلب ولعٌ بالمولد يدفعنا لانتظاره وترقبه عسانا نصيب بعض جماله ونغسل أرواحنا المنهكة بتباشيره ونحن نحرص على اصطحاب أطفالنا إليه بدعوى المرافقة بينما تتهلل أساريرنا فرحاً. { لم ولن يفقد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف روعته وخصوصيته وإن تطاولت عليه بعض الممارسات المزعجة من أصحاب النفوس الضعيفة التي سيطر عليها الشيطان فجعلهم لا يرون في ذلك التجمع الاحتفالي الضخم سوى سانحة للسرقة أو التحرش أو التسكع لشيء في نفوسهم المريضة... وسنظل نحرص عليه وعلى قيمه وحلواه مهما ارتفع سعرها واستعصت على جيوبنا الخاوية.. ومهما تراجعت جودتها وأصبحت سبيلاً للكسب السريع وسلعةً تباع لأغراض تجارية لا دخل للقيم الروحية بها... ونبقى على عهدنا في ارتياده كل عام حرصاً على موعدنا مع سيد الخلق دون أن يكون السبب الحقيقي ذلك الإلحاح الذي يحاصرنا به صغارنا فحسب. { ويظل مما يسعدني ذلك التعلق الحميم الذي يحمله أبنائي للمولد رغم مغريات العصر، فهذا مما يؤكد أنهم لا يزالون بخير وقادرون على التصدي لكل ما يمكنه أن يبعدهم عن الطريق القويم والسيرة النبوية بكل ما تحويه من مبادئ ومرتكزات وخلق قويم. فكل عام وأنتم بألف خير.. مدّ الله في أعماركم لتظلوا تحتفون بذكرى المصطفى صلوات الله وسلامه عليه بمحاسبة النفس والتأسي بسيرته العطرة وتجديد عهود التقوى والالتزام دون أن تكون ذكرى مولده مجرد مظهر احتفالي تئن به النوبات وترن وندور نحن حول أنفسنا دون أن نقف قليلاً لنتأمل ونتذكر ونستعيذ ونستغفر. {تلويح: شعب السودان يحبك يا رسول الله.. ويصلي ويسلم عليك صباحاً ومساء... (صلى الله عليه وسلم).