أرخى أذنه لتلتقط كلمات بالغة الحساسية داخل مجتمع نخرت عظامه الوشاية وأقعدت نهوضه (القوالات) وأسكنه التناجي منازل الهم والغم. الكلمات المعدودات أجحظت عيني الرجل وهو يسترق السمع، ثم أتبع جحوظه بابتسامة ماكرة وفرح طفولي وكأنه حاز كنزا عظيما، وانسرب في الظلام قبل أن يدركه طرفا المحادثة الخطيرة والكلمات الأكثر خطورة. انطلق صاحب الأذن يحشر نفسه داخل غرفة في مؤخرة بيته وهو يتصبب عرقا، الكلمات أكبر من أن يحتملها بالرغم من أنها لا تعنيه بالكامل ولكنها تحمل أخطر أسرار القرية. أغلق عليه باب غرفته ورمى بنفسه في أحد أركانها وبدأ يعيد ترتيب الأوضاع والعلاقات داخل القرية على النحو الذي أفصحت عنه تلك المحادثة وكلماتها المعدودات.. ساعة كاملة حتى فرغ من رسم الحقيقة على أرض القرية وبدأ يتأملها بذهول فاضح وكأنه غبي وأبله تتعلق عيناه بمنظر غريب ينتصب أمامه، تحركت الشخوص من مواقعها إلى مواقع أخرى حتى هو تحرك من خانة الناقل والواشي والمشاء بين الناس والفقير المعدم إلى صاحب مال وجاه يستقبل المشائين والواشين والنقالين، يسمع لهم دون أن يسعفهم بكلمة واحدة يرسلها مع دنانيره التي يصفعهم بها بعد كل وشاية ينقلونها إليه.. زعامة القرية ذهبت لرجل أفنى عمره في فضيلة الصمت، لا يطلق لسانه إلا مستجيبا لسؤال أو مصححا لخطأ يمر من أمامه أو خطيبا لصلاة الجمعة عندما يتعذر وصول الإمام الراتب، يتجاهله أهل القرية ولا يتذكرونه إلا حين تدركهم الحاجة إليه وبالذات حين يصطفون لأداء صلاة الاستسقاء فتتعالى أصواتهم ينادونه باسمه فيخرج إليهم من بين صفوفهم الخلفية مطأطئا رأسه حتى يبلغ مقام الإمامة فيكبر ويقرأ ما تيسر من القرآن في صلاته ويدعو الله باكيا ودامعا ومتبتلا والمصلون من خلفه يخشعون ويبكون ويناجون الواحد القهار أن ينزل المطر، فتمطر قبل أن يدركوا بيوتهم.. تحركت كافة المواقع داخل حياة القرية وتبدلت شخوصها.. إمام المسجد العتيق خلفه المأموم وموقع رئيس لجنة الخدمات بالقرية لم يشغله أحد وكأنه يدرك حقيقتهم وشعاراتهم الزائفة فآثر البقاء خاليا دون أن يقترب منه أحد من أهل القرية حفاظا على ما هو موجود وقائم من الخدمات.. الدرويش رجل حلبة الذكر الأول ينهض شيخا وقورا، يقصده الأحباب والمريدون من خارج القرية، ترتعد أوصاله عند ذكر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ويحتفل في شهر رجب من كل عام بتخريج دفعة من حفظة كتاب الله الكريم ويحرص دائما على ألا يحضرها مسؤول.. الجمعية التعاونية بالقرية يديرها الغريب الذي قدم إلى القرية موظفا وعمل بها حتى أدركته نهاية الخدمة فآثر البقاء فيها يخالط أهلها بأدب جم وكياسة وذوق رفيع حتى أضحى الرجل الوحيد الذي يجمعون عليه وهو يحرص دائما أن يكون بعيدا عن عراكهم اللئيم. النشاط الشبابي في جوانبه الرياضية والثقافية والفنية داخل القرية تراجعت حظوظ سدنته فنهضت إليه وجوه جديدة هي الأكثر عطاء وموهبة وزهدا وتقوى على النقيض من أسلافهم الذين دفعت بهم جرأتهم وحسب لخطف ما لا يستحقونه فركدت أنشطة الشباب إلا من ثقالاتهم وتفاهاتهم التي لم تترك منشطا يمضي حتى خواتيمه النبيلة.. الكلمات المعدودات لم تبق على أحد داخل القرية في موقعه، التغييرات طالت الكل وطالت كثيرين أمسك قلمي عن ذكرهم، في مقدمتهم صاحب الأذن وقد استعصى عليه احتمال تلك الأسرار الخطيرة فبقي داخل غرفته وفي ركنها القصي حتى منتصف نهار اليوم التالي حين اقتحم رجال القرية غرفة الرجل فوجدوه ميتا على حالته منذ أن لامست تلك الأسرار الخطيرة أذنه وعيناه تكادان تقفزان من محجريهما وقد عجز الموت الذي قضى عليه أن يقضي على جحوظ عينيه وهول ما أصابه من أسرار.. في أحايين كثيرة نتآمر على الحقيقة داخل مجتمعاتنا ونتعايش مع غيرها وقد أفاضت الروايات الاجتماعية لكبار الروائيين تسخر من هذه المؤامرة الاجتماعية المستمرة وحتى الأسرار تحرق من يدركها مثل صاحب الأذن ويبقى الحال على ما هو عليه كذوبا.. وتبقى حقيقة أخري هي (إن هناك أسرارا داخل مجتماعاتنا من الأفضل أن تبقى مكتومة).