مضى أو انصرم شهر فبراير، أقصر شهور السنة وأحد أجملها.. وفي ذهني دواماً من واقع وحوادث هذا الشهر واقعتان .. إحداهما سودانية والأخرى مصرية سورية. نبدأ بالأولى.. ففي فبراير 1965م، يوم 18 أو 19 على ما أذكر، استقال الأستاذ سر الختم الخليفة من رئاسة مجلس الوزراء، وكانت حكومته المستقيلة إحدى نتائج ثورة أكتوبر 64 وكان يغلب عليها الطابع اليساري.. وكان أكبر حزبين في البلد، الأمة والوطني الاتحادي، مُمَثَّّلين في حكومة سر الختم بوزيرين فقط هما محمد احمد محجوب وزير الخارجية ومبارك زروق وزير المالية. وكان الحزب الثالث الشعب الديمقراطي ممثلاً بوزير هو الدكتور أحمد السيد حمد. ثم شُكلت حكومة ثانية برئاسة سر الختم الخليفة وغلب عليها الطابع المعتدل التقليدي، فأصبح وزراء حزب الأمة ثلاثة منهم محجوب ومثلهم وزراء الوطني الاتحادي وفي مقدمتهم زروق.. والشعب الديمقراطي وفي مقدمتهم الدكتور أحمد السيد حمد.. ويرى اليساريون أن تلك الحكومة كانت بداية انتكاسة ثورة أكتوبر. وفي فبراير 1958م، يوم 22 تحديداً، أُعلنت الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، وأصبح الرئيس هو جمال عبد الناصر، وحظي الرئيس السوري شكري القوتلي بلقب المواطن الأول، وأصبح للرئيس نواب مصريون وسوريون، ولكن كل السلطة تقريباً كانت بيد عبد الناصر وصديقه ونائبه المشير عبد الحكيم عامر. لقد كانت تلك الوحدة خطوة كبيرة على طريق الوحدة العربية الشاملة من المحيط الى الخليج، لكنها لم تستمر لأكثر من ثلاث سنوات وسبعة أشهر. وكانت تلك الوحدة حدثاً ضخماً هزّ الدنيا والعالم العربي تحديداً من أقصاه الى أقصاه، وما أكثر ما كُتب وقيل عن تلك الوحدة التي انهارت في 28 سبتمبر 1961م. وتقول الكتب عن المواطن الأول شكري القوتلي إنه سياسي متمرس عاد من المنفى عام 54، وتم انتخابه رئيساً للجمهورية السورية. وقد حرصت سوريا في عهده على التعاون مع مصر والسعودية في مناهضتهما لحلف بغداد، وبدأت تتقرب من الاتحاد السوفيتي، وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م قطعت سوريا علاقاتها مع بريطانيا وفرنسا. وفي عام 57، أخذ نفوذ حزب البعث يتنامى ومعه نفوذ ضباط الجيش.. لقد كان الرئيس القوتلي رئيساً ضعيفاً وكان دور حزب البعث وضباط الجيش في تحقيق الوحدة السورية المصرية في فبراير 58 أكبر من دوره. من المؤكد أن أزمات السودان التي ظلت تتناسل على مدى عمر الحكومات السابقة بأبعادها السياسية والإقتصادية والإجتماعية.. زجت المجتمع بكامله في مسارات ضيّقة.. مظلمة.. وأضحى الفرد المتعلم أو المثقف لا يقوى على ممارسة حقه المُتاح من الفكر في أي مسألة محورية تساهم في فك عقدة من عقد هذه الأزمات.