بدأت الإجازة المدرسية، وبدأ العذاب والصراخ واحتراق الأعصاب والإرهاق الذهني والبدني، وربما علينا جميعاً أن نبذل الشكر لمؤسسات التعليم المختلفة ابتداءً برياض الأطفال وانتهاءً بالجامعات لأنها تعيننا على احتمال أعباء تربية أبنائنا وتمنحنا قسطاً يومياً من الراحة لا نشعر بقيمته الحقيقية إلا أثناء الإجازة الصيفية العامرة بالشقاوة والخلافات بين الصغار، التي كثيراً ما أكتشف خلالها أن تغييراً كبيراً طرأ على أبنائي دون أن أشعر به، فكأنما أتعرف عليهم من جديد وأدرك أنهم كبروا واختلفت أولوياتهم. ورغم أن الأطفال هم أغلى ما لدينا وحبهم هو أصدق المشاعر الإنسانية التي نحملها، فإن ذلك لا يمنع أن نضيق أحياناً بتصرفاتهم غير الناضجة خصوصاً إذا كانوا (طَرَدَة) يمعنون في المشاكل ويتشاجرون على كل صغيرة وكبيرة «وحقي وحقك» و«سريري وسريرك» و(سبيس تون) لا.. (إم. بي. سي 3 ) . ولا أعلم هل أنا وحدي من أكابد وبال الإجازة الصيفية أم أن الحال في جميع البيوت كذلك؟ علماً بأن أبنائي والحمد لله يظهرون للوهلة الأولى وكأنهم ملائكة أمام الغير، غير أنهم يتمتعون بقدر من الدهاء والمكر و(الاستهبال) ما أنزل الله به من سلطان، ولهم قدراتهم الخاصة في إقناعي بأي شيء إذا ما اتفقوا يوماً عليه. الآن.. ومنذ أن بدأت هذه الإجازة ربنا يجازيها لا حديث لهم سوى الرغبة في امتلاك (بلاي ستيشن) حديث الطراز تنوء ميزانيتي بحمل ثمنه الباهظ، ولم تغنهم جميع ألعاب الكومبيوتر وفضائيات الأطفال عنه، ويمارسون الضغط عليّ بشتى الوسائل ومن جميع الاتجاهات في بادرة نادرة من اتفاقهم وتوحيد هدفهم العزيز. ولم تفلح جميع محاولاتي في الهروب من حصارهم (بالنقة) أو الدموع أو استدرار عطفي عليهم وهم يقارنون أنفسهم بأبناء (فلان) أو (علان) الذين لديهم هذه (الآفة)! وقد بدأت جدياً في عقد العزم على مفاجأتهم وتلبية رغبتهم العزيزة قريباً، غير أنني أعيد النظر الآن في الأمر بعد أن تبين لي أن أبنائي على استعداد لتقليد كل الأفكار الإلكترونية والاعتقاد بها، فمنذ مدة، وبينما أسعى في ردهات المنزل لممارسة أعبائي اليومية، كان ابني (محمد) يمعن في إزعاجي بدراجته ويتحرك بها في جنبات الدار وغرفه كيفما شاء دون أن يذعن لتحذيراتي أو يستجيب (لنهراتي) فهو يجادلني كعادته قبل أن ينصاع لأوامري، ولما يئست منه؛ حاولت أن أتشاغل عنه حتى لا أرهق أعصابي أكثر، فسمعته يتجاذب أطراف الحديث مع شقيقته الصغرى (إلفة) التي أتت تحدثه عن شعورها بالمرض إثر علة ألمت بها مؤخراً فقالت له ببراءة: (شفتَ يا حمودي، ماما قالت أنا عياااااانة ولازم أتغذى عشان أبقى كويسة). معليش يا (ألوف).. أحسن تشربي (......) عشان تبقي قوية، ما شفتِ أنا بقيت (معضّل) كيف لأني بشرب (.....) طوااااالي و(بفحّط) بالعجلة شديد لمن سبقتا ليك ناس (منير). و(.....) مشروب شعير جديد زحمت إعلاناته أعيننا وملأ الدنيا مؤخراً وشغل الناس، وتأكدت من أن ابني يعتقد جازماً أنه يمده بالطاقة والحيوية ويجعل منه بطلاً قادراً على فعل المستحيل. فكيف بربكم (أزيد الطين بِلَّة) وآتيه بآفة جديدة مليئة بالحركات البهلوانية والضربات القاضية والقفزات اللولبية؟ وإذا كنت غير قادرة على إحكام سيطرتي على سحر الإعلانات وتأثيرها على أبنائي فكيف أجابه سحر الأبطال الخارقين وشخصيات الديجتال الأخاذة؟ وإذا كانت أخته الكبرى ذات الثماني سنوات تغافلني لتشاهد الأفلام الهندية حتى بدأت في ترديد أغنياتها دون أن تفهم معناها فكيف أقنعه هو بألا يقلد (سبايدرمان) أو (جاكي شان الكرتوني)؟ أحمل إليكم حيرتي في هذه الإجازة الصيفية بعد أن شبّ أبنائي عن الطوق، ويحاولون خلق شخصياتهم المستقلة في ظل الغزو الفضائي وسطوة الإعلانات والفراغ، ولا تقولوا لي أغلقي التلفاز أو افصلي الإنترنت فقد خرج الأمر من يدي كما إنني أحاول أن أكون أماً مثالية متعاونة لا تحل الأزمات بالقسوة أو الحرمان، فماذا أفعل؟ { تلويح: أعلم أنني قفزت بكم بين المواضيع، ولكن القضية شائكة ومتداخلة والعالم الذي أصبح قرية صغيرة تغتال فيه البراءة بمختلف الوسائل، ولا فكاك.