عماد الدين عبد القادر الشريف ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ) آل عمران:(146). إنها مِنّة كبرى ونعمة عظمى لمن تدبَّر وتعقّل. ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ)، فالمؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله هم الذين يستشعرون هذه المِنّة، ويعرفون قدرَ هذه النعمة حقَّ المعرفة، ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، يعرفون حسبه، ويعرفون نسبَه، ويعرفون صدقَه، إذ ما كذب قط، وما عُرف بخيانة، ولا عُثر فيه على خلقٍ سيئ، بل هو محفوظ بحفظ الله من نشأته إلى وفاته، محفوظ بحفظ الله من كل سوء، ما عبد وثناً، وما تعاطى مُسكراً، وما اقترف جريمةً، بل هو معروف عندهم بالصادق الأمين، أدَّبه ربه فأحسن تأديبَه، وعلَّمه فأحسن تعليمَه، واختاره لهذا الأمر العظيم، لهذه الرسالة الكبرى، وربُّك يعلم حيث يجعل رسالته. ( يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ ) ، يتلو عليهم هذا القرآن، فيه خبر من قبلهم، وحكم ما بينهم، ونبأ ما بعدهم. يتلو عليهم هذا القرآن الذي هو سبب لإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إبراهيم (1). ( وَيُزَكّيهِمْ ) ، يزكي أخلاقهم، يزكي نفوسهم، يزكي عقولهم بطهارتها من الشرك قليله وكثيره، وطهارتها من رذائل الأخلاق وسفاسف الأعمال. ( وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ، علَّمهم القرآن، وعلّمهم السُّنة، وإن كانوا من قبل مبعثه لفي ضلال مبين. كانوا قبل مبعث محمد (صلى الله عليه وسلم) في غاية من الضلال، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، يقول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مخبراً النجاشي لما سأله قال: كنا عُبّادَ أوثان، نأكل الميتة، ونشرب الخمر، ونقطع الرحم، ونأتي الفواحش، حتى بعث الله فينا محمداً (صلى الله عليه وسلم) ، فأخرجنا الله به من الظلمات إلى النور. فهم قبل مبعثه في غاية من الضلال، قد اندرست أعلامُ الهدى، فليس الحق معروفاً، ولكن الله أنقذ هذه الأمة بمبعث محمد (صلى الله عليه وسلم) . إن مبعثَه رحمةٌ للعالمين، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ) الأنبياء(107)، وكتابه نذير للعالمين، (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) الفرقان:(1)، بعثه الله برسالةٍ للخلق كلهم، عربِهم وعجمهم، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) سبأ(28)، ( قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) الأعراف:(158). فنسخ الله بشريعته كلَّ الشرائع، وألزم الخلقَ طاعتَه، وحكم على من خرج عن شريعته بالخسارة في الدنيا والآخرة: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آل عمران:(85)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): (لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) ، لأن الله جلّ وعلا ختم برسالته كلَّ الرسالات، (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ) الأحزاب:(40). حقُّ محمد (صلى الله عليه وسلم) علينا أمور، فمن أعظم حقه الإيمان به، فمن أعظم حقه أن نؤمن به، ونصدق رسالته، ونعتقد أنه عبد الله ورسوله، أرسله الله إلى الخلق كلهم. ومن حقه علينا أن نسمع له ونطيعه، فإن طاعته طاعة لله، (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) النساء:(80)، وطاعته سبب للهدى، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ) النور:(54). ومن حقه علينا أن نحكِّم سنته، ونتحاكم إليها، ونرضى بها، وتطمئن بها نفوسنا، وتنشرح لذلك صدورنا، (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً) النساء:(65)، وإذا أمر بأمر أو حكم بحكم نقبله وليس لنا خيرة في ذلك، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) الأحزاب:(36). إن طاعته سبب لدخول الجنة، يقول (صلى الله عليه وسلم) : (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) ، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ( من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). إن محبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصادقة عنوانُ الإيمان، بأن تحبَّه محبةً فوق محبة نفسك التي بين جنبيك، قال عمر: (يا رسول الله، والله إنك لأحب الناس إليَّ إلا نفسي، قال: (لا والله، حتى أكون أحب إليك من نفسك) ، قال: لأنت الآن أحب إليّ من نفسي، قال: (الآن يا عمر). وأخبر (صلى الله عليه وسلم) أن محبته محبة فوق محبة الولد والوالد فقال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده) . وورد أن العبد لا ينال كمال الإيمان حتى يحب هذا النبي محبة فوق محبة الأهل والناس أجمعين، فيقول (صلى الله عليه وسلم) : (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله والناس أجمعين). ثمرة تلك المحبة أولاً: طاعة الله ومحبة الله، قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) آل عمران:(31)، فلا ينال عبدٌ محبة الله حتى يحبَّ هذا النبي الكريم محبةً صادقة من عميق قلبه. ومِن ثمرات محبته أن المحبَّ له يُحشَر معه يوم القيامة، ويلتحق به، سأل رجلٌ النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: (ما أعددتَ لها)؟ قال: حب الله ورسوله، قال: (المرء مع من أحب)، قال أنس: فما فرح المسلمون بعد الإسلام فرحَهم بما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ( المرء مع من أحب )، قال أنس رضي الله عنه: فإني لأحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو الله أن يلحقني بهم وإن قلَّ عملي . إن لمحبة رسول الله علاماتٍ تدلّ على كمال محبة المسلم لمحمد (صلى الله عليه وسلم) ، فليست المحبة له مجردَ ادعاء، ولكنها حقائقُ واقعة باتباع سنته وتطبيقها، والسؤال عنها ومحبتها، ومحاولة تطبيق المسلم سنةَ رسول الله في كل عباداته وأحواله، فما بلغه من سنته من شيء إلا أخذ بها وعمل بها وطبّقها وفرح بذلك. إن محبتَه (صلى الله عليه وسلم) لا تكون بغلوِّ الغالين فيه، ولا تكون بجفاء الجافين. إن محبتَه اتباعُ ما جاء به وتحكيمُ شريعته، وأعظم ذلك عبادةُ الله وحده لا شريك له، وصرف كل أنواع العبادة لرب العالمين، وألا يُصرف منها شيء لغير الله، وقد أمره الله أن يقول: (قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً ٭ قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً) الجن(21-22)، وقال له: (قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوء) الأعراف:(188)، وحذرنا أن نغلو فيه فقال: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، وقال لنا: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) ، ولعن في آخر حياته اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال(صلى الله عليه وسلم): (ولا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني أين كنتم). هكذا أرشدنا(صلى الله عليه وسلم) ، هو مبعوثٌ لإقامة شرع الله، للدعوة إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، والعبادةُ لا حقَّ له ولا لغيره فيها، بل هي حقّ خالص لربنا جلّ وعلا، لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده) . أيها المسلم، إن علامةََ محبة النبي (صلى الله عليه وسلم) تكون كما سبق باتباع سنته، والعمل بشريعته، والاقتداء به في القليل والكثير، (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) الأحزاب:(21). فالمحب له هو المعظمُ لسنته، العامل بها إذا بلغته، سواءً في العبادات أو في المعاملات أو في كل الأحوال، يقتفي سنته، ويبحث عنها، ويسأل عنها، ويهتمُّ بها، ويقيم لها وزناً، هكذا المؤمن المحب له (صلى الله عليه وسلم). أيها المسلم، إن أصحابَه الكرام قد أظهروا من كمال محبتهم له وحرصهم على سنته ما لا يخفى، أظهروا من محبتهم له وشفقتهم عليه وحرصهم على الاقتداء به ما جعلهم خيرَ الخلق وأفضلَهم على الإطلاق بعد الأنبياء عليهم السلام، فاسمع أخي إلى أنواع من محبتهم له تدلُّ على قوة الإيمان به، ومحبتهم له، رضي الله عنهم وأرضاهم. يومَ أراد (صلى الله عليه وسلم) المهاجرة من مكة إلى المدينة أتى الصديق في الظهيرة، فلما قيل للصديق: هذا رسول الله، قال: بأبي وأمي، ما أتى به إلا لأمرٍ جَلَل، فلما دخل عليه قال: (أُذِن لي بالهجرة) ، فقال الصديق: الصُّحبةَ يا رسول الله؟ فقال: (نعم) ، قالوا: فبكى الصديق رضي الله عنه فرحاً، تقول عائشة: وما كنت أظن الفرح يوجب البكاء بعد الذي رأيت من أبي رضي الله عنه وأرضاه . ومن ذلكم أن الصديق رضي الله عنه لما فطن لخطبة خطبها النبي (صلى الله عليه وسلم) أنها توديعٌ لهم وإخبارٌ بقرب أجله بكى الصديق رضي الله عنه، فخطب (صلى الله عليه وسلم) في آخر حياته قائلاً: (إن عبداً خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده) ، فبكى الصديق رضي الله عنه، قالوا: إن المخيَّر هو رسول الله، وإن الصديق كان أعلمنا بذلك رضي الله عنه وأرضاه. ولما خطب بعد موت النبي بسنة، وأراد أن يقول: إن رسول الله خطبنا في هذا اليوم من العام الأول بكى رضي الله عنه، وغلبه البكاء مراراً، ثم قال: سمعت رسول الله يقول: (ما أوتي عبد بعد الإسلام خيراً من العافية، فاسألوا الله العافية). ولما حضرت أبا بكر الوفاة، قال لهم: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين، قال: إن متُّ مساءً فلا تنتظروا بي إلى الصباح، فإن أفضلَ يوم أو ليلة عندي أن ألحق بمحمد(صلى الله عليه وسلم)، فرضي الله عنه وأرضاه. وهذا خليفته عمر رضي الله عنه، حينما طُعن وعلم أنه قرب أجله قال لابنه: يا بني، إن أهمَّ أمر على أن أُدفن بجوار محمد (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه أبي بكر، فاذهب إلى عائشة فقل لها: يقرئك عمر السلام، ويستأذنك في أن يُدفَن بجوار محمد (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه، فذهب عبد الله إليها، وإذا هي تبكي على عمر حزناً عليه، فقال: يقرئك عمر السلام، ويقول: أستأذنُ منك أن أدفَن بجوار محمد وصاحبه، قالت: لقد كنتُ أعدُّه لنفسي، وإني لأوثره على نفسي، فرجع عبد الله إلى عمر، فقيل: هذا عبد الله، فقال: أسندوني، ما وراءك؟ قال: ما يسرُّك يا أمير المؤمنين، لقد أذنتْ أن تُدفَن بجوار محمد وصاحبه، قال: الحمد لله، إنه لأمرٌ كان يهمّني، ثم قال: يا عبد الله، إذا صليتُم عليَّ، فمرُّوا بجنازتي إلى عائشة، فلعلها أن تكون قالته حياءً مني، فإنها أذنتْ لي وإلا فضعوني مع المسلمين، فلما صلَّوا عليه مرّوا به فقالت: ما كنت لآذن له حياً وأمنعه ميتاً، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. وهؤلاء أنصارُ الإسلام الأوس والخزرج، كانت محبتهم لرسول الله محبةً صادقة حقاً، فلما قسم النبي (صلى الله عليه وسلم) غنائم حنين، ولم يعطهم ولا المهاجرين شيئاً، وخصّ بها المؤلفةَ قلوبهم، وجد بعضهم في نفسه شيئاً، فدعا الأنصار وقال لهم: (يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! ومتفرقين فألفكم الله بي)؟!، فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: (يا معشر الأنصار، أترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون بالنبي إلى رحالكم)؟! قالوا: نعم، قال: (المحيا محياكم، والممات مماتكم، الأنصار شعار، والناس دثار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) رضي الله عنهم وأرضاهم. ربيعة الأسلمي قدَّم للنبي وضوءَه فقال: (يا ربيعة، سلني)، فقال: أسألك مرافقتَك في الجنة، قال: (أوَغير ذلك)؟! قال: هو ذاك، قال: (يا ربيعة، أعني على نفسك بكثرة السجود). صحابيٌّ آخر أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) قائلاً: يا رسول الله، كلما ذكرتُك وأنا في بيتي، لا تطيب نفسي حتى أخرج وأنظر إليك، ولكن إذا ذكرتُ موتي وموتَك وعلوَّ منزلتك وأنا دون ذلك حزنتُ حزناً شديداً على ذلك، فأنزل الله: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) النساء(69). محبةُ المسلم لرسول الله لا تكون بغلوٍّ فيه، ولا بإطرائه، ولا برفعه عن منزلته، ولا بإحياء مولدٍ أو أمثال ذلك مما ابتدعه المبتدعون وأحدثه الضالون، وإنما تكون باتباع سنته والعمل بشريعته والطمأنينة إليها. إن صلة المسلم بنبيه صلةٌ دائمة، وصلة مستمرة، وصلة لا تنقطع، في كل أحواله، في كل حركاته وسكناته، فله صلة بنبيه (صلى الله عليه وسلم) ، إن صلته برسول الله الاقتداءُ به ليحقق قوله إن صلى :(صلوا كما رأيتموني أصلي) ، إن حج فصلته بنبيه :(خذوا عني مناسككم )، إن صام أو زكى فدائماً صلته بنبيه، في أكله وشربه ونومه وبكائه وضحكه وغضبه ورضاه، وفي كل أحواله هو يقتدى بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ، ويتحرى الاقتداءَ به والتأسيَ به في القليل والكثير. هكذا المسلم المحبُّ له، أما محيو ليالي المولد وأمثالها، فإن صلتَهم صلة مبتورة، ليلة من الليالي يأتي فيها من الخرافات والبدع والضلالات ما الله به عليم، ويدَّعون أنهم بذلك معظمون لسنته، وهم بعيدون كلَّ البعد عنها. إن أصحابَه الكرام، خلفاءَه ثم سائر أصحابه يعلمون ليلة مولده، ويعلمون ليلةَ مهاجره، ويعلمون أيامَ انتصاره، ويعلمون ليلةَ موته، ويعلمون كلَّ هذه الأمور، وما نُقل عنهم شيء من هذا، وهو أحب الناس إليهم، وهم المحبون له على الحقيقة والكمال، ومع هذا ما علمنا شيئاً أحدثوه، ولكنهم متبعون ومقتدون ومتأسون به (صلى الله عليه وسلم)، فليكن المسلمون على ذلك. هذه حقيقة المحبة، حقيقة الإيمان والاتباع، السير على ما سار عليه، وعلى ما كان عليه أصحابه والتابعون وتابعوهم السائرون على المنهج القويم والطريق المستقيم، وفي الحديث:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفيه:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). الأصلُ في عباداتنا أن تكون خالصةً لله، وأن تكون على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه، فكل عبادة نتعبَّدها لا أصل لها في سنة محمد (صلى الله عليه وسلم) فإنها عبادة باطلة؛ لكونها غيرَ موافقة لسنة محمد(صلى الله عليه وسلم) . وإن أصحابه الكرام أقرب الناس إليه، عاشوا معه وعرفوا هديَه، وعرفوا عبادتَه، فكل عبادة ما تعبَّدوها فلنعلم أنها عبادة على غير هدى، إذ لو كانت عبادة حقاً لكانوا أولى الناس بها،(وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) التوبة(100)، فهم أسوتنا وقدوتُنا، ما نقلوه لنا عن محمد(صلى الله عليه وسلم) فهو الحق المقبول، وما لم ينقلوه في العبادة فالأصل أن كل عبادة لم يتعبَّدها أصحاب رسول الله نعلم أنها مبتدعة لكونها لا دليل عليها، وإنما الحق ما وافق هديه (صلى الله عليه وسلم) ، وكل بدعة تُنشأ وتّقام فلا بد أن يقابلها تعطيل لسنة من السنن. إن المحيين لليلة المولد قد يكون قصدُ بعضهم خيراً لكنه لم يوفَّق للصواب، والغالبُ عليها أنها تُعمَر بأذكار وقصائد ودعوات باطلة، فيها دعاء للنبي، واستغاثة به، وغلو فيه، وإشراكه بالله، فهو (صلى الله عليه وسلم) يكره هذا ويأباه ولا يرضاه. وأحب الناس إليه من أمته من كان متبعاً لسنته سائراً عليها بعيداً عن هذه البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان،(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله) الشورى(21)، قال بعض السلف:(اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)، فالحق ما كان عليه أصحابه الكرام والتابعون لهم بإحسان، وهم المطبقون لسنته العاملون بها، جعلنا الله وإياكم من أتباعهم، إنه على كل شيء قدير.