{ تطالعني كل صباح أنباء اقتصادية متفرقة تزف البشرى بتصدير واحدة من خيرات بلادي إلى الخارج، وما بين اللحوم التي تُصدَّر إلى الخليج العربي والفاكهة السودانية المحمولة إلى أوروبا وكهرباء السد المرسلة نحو القرن الأفريقي؛ أقف حائرة بين أمرين، أحدهما الإحساس بالفخر والسعادة لأننا غزونا العالم اقتصادياً وبدأنا نفرض أنفسنا على أسواقه بقوة، والآخر إحساسي بالحسرة والتعجب لأننا داخلياً لا نتمتع كما يجب بخيراتنا هذه، خيراتنا التي تتضمن الخضروات المتجهة إلى دول شرق آسيا، ومن قبلها الصمغ العربي والقطن والبقول والتوابل، وعلى رأس القائمة ذلك الذهب الأسود الذي نسمع به منذ زمن ولم نره متجلياً حتى الآن. { وما فتئنا نتشدق بالعبارة الشهيرة «السودان سلة غذاء العالم»، والتقارير الرسمية التي أوردتها جهات الاختصاص قبل مدة مفادها أن حوالي 95% من السودانيين يقعون تحت خط الفقر ولا أعلم أين يقع هذا الخط تحديداً فما جدوى كل هذا التصدير والتجارة الخارجية؟ وأين يذهب العائد منها؟ ولمن يذهب؟ وإذا كانت عوائد تصدير النفط والكهرباء والتجارة الخارجية بالمحاصيل والصناعات الصغيرة لم تتمكن من دفعنا ولو قليلاً فوق خط الفقر؛ فما جدوى كل ذلك؟ { رجاء.. ما دام خط الفقر هذا أصبح يعنينا أكثر من خط الاستواء؛ فدعونا نأكل منتجات أراضينا ونرتع في خيرات بلادنا، واسمحوا لنا بالتعرف على ثرواتنا الحيوانية عن قرب، فبعضنا لا يلتقي الخروف السوداني إلا في عيد الأضحى المبارك فقط، ومعظم السودانيين الواقعين تحت خط الفقر أو الواقعين عليه؛ أهلكهم سوء التغذية، وحار بهم الدليل في سبيل تحصيل لقمة العيش، وتحسين الأوضاع، وتوفير الحد الأدنى من مستلزمات الحياة «المستوردة»، حتى أصبح البعض غير معنيين بأخبار الساسة والسياسيين، والثقافة والفنانين، بقدر ما يعنيهم «كيس العيش» وحفنة الخضار التي تحولت من (القُفة الماهلة) لتستوطن باطن كيس كئيب من البلاستيك ضرره أكثر من نفعه. { معظمنا، لا يكترثون لمن ذهب أو انشق أو خرج أو عاد إلى حظيرة الوطن، ولا يعلمون التفاصيل الكاملة لمشكلة دارفور وأزمة فلان وحركة علان ولا صراعات الثروة والسلطة، وما لازم الانتخابات من إخفاق أو نجاح، بقدر ما يعنيهم سعر كيلو الطماطم، وربع كيلو اللحم، ورطل السكر. فيا أيها القائمون على أمرنا (الزاد كان ما كفى ناس البيت يحرم على الجيران)، فضعونا على رأس قائمة المستفيدين من خيرات البلاد التي تشنفون آذاننا بالحديث عنها وعن مخططاتكم بصددها، صدروا الخضر والفاكهة إلى الداخل، ومتعونا بإمداد كهربائي متواصل في هذا الصيف القاتل، أسهموا في درء أمراض ضعف الدم ونقص الغذاء عند الأطفال والكبار، ووفروا لنا حياة كريمة ملائمة تشعرنا بوجودنا. { وما دام الفرض الأساسي مصلحة الوطن كما تدعون والمقصود من هذا التصدير استجلاب عملات صعبة تستخدم في بناء المستشفيات والمدارس وتوفير الدواء والكساء وتنمية مؤسسات العلاج والتعليم والصحة؛ فأرجو أن تختصروا على أنفسكم الطريق، وتقونا شر سُعار الأسعار بتوفير كل احتياجاتنا بما يتناسب ومعدلات دخولنا لنتمكن من التغذية السليمة مباشرة؛ لنستغني عن طلب العلاج، فالعقل السليم في الجسم السليم، والجسم السليم أقدر على العطاء والإنتاج، وراحة البال فوق كل ذلك، والإحساس بالاكتفاء الذاتي والامتنان للوطن الممتد مليون ميل مربع من الرخاء، أعظم إحساس يمكن أن نعيشه على الإطلاق، وستلاحظون الفرق الواضح في معدلات وزيادة الوعي والثقافة وممارسة السياسة الموضوعية الهادئة بعيداً عن التطرف ومحاولات زعزعة الأمن والدعوة للعصبية والاقتتال استناداً على الفقر والعوز والتخلف الشامل. { تلويح: «لو كان الفقر رجلاً.. لدفعته للسفر إلى إسرائيل»!