الحمد لله .. أخذنا نصيبنا أمس من الكتاحة ! والكتاحة عملية تسبق المطر .. هكذا تتواتر الأمور في العاصمة، فحين تنعم الأقاليم والولايات بالأمطار وغيومها ودعاشها، تغرق الخرطوم في الكنداكة، لتفتح صدرها بعد ذلك .. للغيث الجميل. والخرطوم من مناطق العواصف الترابية، ومع ذلك لم نسمع بمستثمر واحد ركب حصان الجرأة، وبادر باستثمار موسم العواصف .. لحصاد التراب !! والناس يفرقون، بالمناسبة، بين (تراب القروش)، و(القروش التراب)، فتراب القروش تعني رخص الشيء ومجانيته، أما القروش التراب، فتعني أن صاحبها يكتنز المليارات، بالقديم والجديد والمحلي والأجنبي !! والتراب له سعره، وهناك من يحترف بيعه، فليس من مبنى إلا ويحتاج الرمال و(السفاية) لتتماسك قوائمه، والتجار يجلبونه من الأقاصي والأطراف، ويتكبدون مشاق نقله، ليبيعوه في المدن والحواضر .. للراغبين في الشراء ! لكن لم يبادر أحد، حتى الآن، بعمل مصيدة للتراب، يستفيد فيها من سخاء العواصف الأمشيرية والخريفية، ويحجز ترابها لتصبح تلالا استثمارية، يبيع منها على راحته، دون تكبد أي مشاق للترحيل أو التخزين !! تجربة الحزام الأخضر، تغمدها الله برحمته، كانت جريئة، فلقد هدفت السلطات الذكية آنذاك لضرب عدة عصافير بحجر واحد، فأرادت حماية العاصمة من الغبار والتراب، وإقامة بيئة زراعية تستفيد من مياه الصرف الصحي، وتوفير موارد خشبية للعاصمة يتم استثمارها بطريقة علمية واقتصادية. وككل الأشياء الجريئة، مات الحزام الأخضر، حيث تحول إلى مرتع للجرائم، وأصبح أكبر مورد لبعوض الملاريا، وتولى الناس عمليات الاحتطاب فيه بشكل جائر .. وتزامن كل ذلك مع أحوال اقتصادية ضاغطة ومتردية. اختفى الحزام الأخضر، وتم إقامة المخططات والعمران على مساحاته، فظهرت مدن الأزهري وجاراتها جنوبي الصحافة، وذابت أول فكرة يمكن أن تكون نواة لاصطياد التراب وتحويله لمهنة استثمارية ! الناس أبناء بيئتهم، والأذكياء من يستغلون عطاء الطبيعة بشطارة وفطنة، فأهلنا على ضفاف النيل ظلوا يبنون بالطين، أيام كان الطين سخيا، فشيدوا بيوتا زهيدة التكلفة، باردة صيفا ودافئة شتاء، ومتصالحة مع البيئة. وسكان الأسكيمو فكروا كيف يستفيدون من الجليد المحيط بهم، فاستغلوه مادة لبناء منازلهم، وكم أعجب لأناس استغلوا الجليد، ليبنوا به منازل من الثلج ! أحد معارفي اتصل أمس يقول، إن المطر الرذاذ الذي تزامن مع عواصف الليل، ساهم في عدم دفنه حيا، فقد تولى تثبيت التراب، والحد من غلوائه، فلم يضطر لقطع نومه الثقيل، والانتقال من الحوش للغرف المكتومة .. بفعل الإغلاق !! عطاء الطبيعية العاصمية سخي بالغبار، وكريم بالأتربة، وبدلا من شتم حظوظنا المناخية، ليتنا نستثمر العطاء السخي، فنصطاد التراب، ونقتنيه بتراب القروش، بدلا من شرائه لاحقا .. بالقروش التراب !!