{ «لا يوجد إعلام محايد».. قد تبدو الجملة صاعِقة، لكنها تمثل الحقيقة باختصار. كل وسيلة إعلامية في هذا العالَم وُجِدَت لهدف معين، وتسعى إلى إيصال رسائل مُعدَّة سلفاً، وتحقيق نتائج مرسومة. هذا الكلام ينطبق حتى على وسائل الإعلام في أكثر الدول تقدماً وتشدُّقاً بحرية التعبير. { الحياد يبدو صعباً، بل مستحيلاً أحياناً، على مستوى الأشخاص، فما بالك بالمؤسسات! المؤسسات الإعلامية، في نهاية الأمر، ما هي إلا مجموعة أشخاص، لهم أهواء وآراء وتوجّهات، ولا بد أن يختلط ذلك كله بعملهم. لذا من الصعب جداً أن نطلب من شخص «اشتراكي»، مثلاً، تقديم تقرير محايد عن حدَث «رأسمالي»! { كما أن من السذاجة أن نتخيل صحيفة أو قناة بلا أجندة سياسية أو إيديولوجية معينة. عندما تفتح التلفاز، مثلاً، افتح في الوقت ذاته أبواب عقلك، ونبّش عمن يدعم تلك القناة، واسأل نفسك لماذا؟ هل ال«بي بي سي»، مثلاً، تبث لتعلمنا أصول تقديم القصة الخبرية؟ هل جاءت لتعلمنا الحرفية في نقل الأخبار؟ كلا! هي باختصار جهاز وُجِد لخدمة مصالح الحكومة البريطانية، أولاً وأخيراً، ومن حقها القيام بذلك. { وسائل الإعلام في الغرب، ومهما تشدَّقت بمفاهيم الحرية والموضوعية والمهنية والليبرالية، تتجرد من ذلك كله فجأة، بشكل غير مفهوم، وتصبح وسيلة إعلامية رجعية مماثلة لوسائل الإعلام الموجَّه في أكثر الدول تخلفاً وتسلطاً واستبداداً. { المذيعة أوكتافيا نصر، الفلسطينية الأصل، الأمريكية الجنسية، كتبَت قبل أيام رسالة قصيرة في صفحتها على موقع تويتر (موقع لنشر الرسائل القصيرة)، عبَّرت فيها عن حزنها لرحيل السيد محمد حسين فضل الله، المرجِع الشيعي اللبناني المعروف، فطُرِدَت فوراً من عملها كمقدِّمة برامج إخبارية في «سي إن إن»، لاعتقاد المحطة بتعاطف مذيعتها مع حزب الله. لم تكن أوكتافيا تؤيد حزب الله، ولم تكن مسلمة حتى تتبع المرجِع الراحل، ولكن كانت جريرتها فقط نعيُ المرجِع الراحل في سطرين عابرين، لمعرفتها بتسامحه ومقاومته للغلو والتطرف، فقد كانت خبيرة بشؤون الشرق الأوسط، وتعلم جيداً ما للمرجع الراحل من آراء ومواقف وطنية ودينية متضاربة مع حزب الله. { لو كانت أوكتافيا نصر تعمل في قناة عربية، وطُرِدَت من منصبها بسبب تأبينها لرجل دين غربي، لارتفعت عقيرة وسائل الإعلام الغربي بهذه الحادثة، ولأبرزتها في صدر نشراتها، ولتأسفت لغياب الديمقراطية وحرية التعبير في العالم العربي «المتخلِّف». وربما تمت دعوة أوكتافيا من كبرى الصحف ومحطات البث الغربية لتلقي المحاضرات هناك، وتسرد تجربتها الإعلامية «المريرة» في العالم العربي. ومن يدري، فربما عينتها إحدى الجامعات هناك مُحاضِرة لديها في قِسم الإعلام!. { يروي بسّام الطيارة، وهو إعلامي عربي يعيش في باريس، موقف الإعلام الفرنسي من الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة نهاية عام 2008م، قائلاً: «كان بارزاً تعاطي محطات التلفزيون الفرنسي تعاطياً انتقائياً مع الحدث.. تغطية غلب عليها التشديد على أن صواريخ القسام تعيث رعباً في ثلث مدن إسرائيل، وتهدّد مليوناً ونصف مليون من مواطنيها.. منطق مُسيّر لمقدمات نشرات الأخبار، يجعل من صور الشهداء والجرحى الفلسطينيين، كأنها تحصيل حاصل. وقد فرض انعدام سقوط قتلى وجرحى في الجانب الإسرائيلي على الإعلام الفرنسي البحث عن مواضيع تقرّب صورة الدفاع عن إسرائيل من واقع الحدث، فيرى المشاهد عدداً من التحقيقات المصوّرة التي تبرز التحصينات الوقائية والملاجئ، إلى جانب التنظيم في الإسعاف المدني. وقد لوحظ التشديد على لقطات مصوّرة، تظهر مدى تشابه المستوطنات الإسرائيلية، بالقرى الفرنسية والأوروبية، من حيث العشب الأخضر الذي يحيط بالمنازل، والمطابخ الحديثة، مع إجراء مقابلات سريعة مع مهاجرين من أصول فرنسية، وهو اختيار مفيد عاطفياً، ويقرّب الضحية المزعومة من المتلقي الفرنسي». { إذاً الحياد الإعلامي الغربي ليس إلا مكياجاً صارخاً لإخفاء تجاعيد الانحياز، أو ربما كان فستاناً فضفاضاً يواري الترهل القبيح للموضوعية. { الحياد في حسابات مؤسسات الإعلام، شرقيها وغربيها، أمر ضروري فقط ما دام لا يتعارض مع مصالحها، ولا مصالح شركائها وحلفائها وداعميها. إنه النفاق والانتقائية الشريرة.. ولكن في ثياب زاهية الألوان. { والخلاصة.. ليس عيباً أن نتحيَّز، فكلنا بشر، نتحيَّز لأوطاننا وأدياننا ومن نُحب، وتحكمنا الأهواء وتسيِّرنا الميول، ولكن العيب يكون عندما يُفضي التحيُّز إلى تحريف الحقيقة، أو تغييبها. أتمنى أن تتكاثر وسائل الإعلام المتحيِّزة.. للحقيقة!. خالد السالم