شهدت مدينة معرَّة النُّعمان السورية عام 1944م مهرجاناً حاشداً، شارك فيه لفيفٌ من كبار الشعراء والمهتمين بالأدب والفلسفة، بمناسبة مرور ألف عام على وفاة الشاعر والفيلسوف أحمد بن عبد الله بن سليمان الشهير بأبي العلاء المَعَرِّي. وكان الدكتور طه حسين في طليعة الحاضرين وبلغ من حماسته للمهرجان أنْ تبرع بخمسة آلاف جنيه دعماً لفعالياته .. وبعد إزاحة السِّتار عن تمثالٍ مُتخَيَّل لأبي العلاء المعرِّي، جلس على المنصة الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، وعلى يمينه طه حسين، وألقى قصيدةً عصماء تناول فيها معالم فكر المعرِّي وأبان فيها بعض ملامح شخصيته وسلوكه .. وقد وصف الجواهري تلك اللحظات، في كتابه "مذكراتي"، بقوله: "بينما كنتُ أُلقي القصيدة كانت يدي اليُمنى تمتدُّ، عفوَ الخاطر، لِتَرْبِتَ على الكتف اليُسرى للدكتور طه حسين الذي كان بجانبي .. هذا الرجل ليس أبا العلاء، لكنه كان يجمع شيئاً غير قليلٍ من فكره وملامحه". ويُرْوَى أنَّ طه حسين اهتزَّ اهتزاراً شديداً لقصيدة الجواهري، التي كان مطلعها: قِفْ بالمَعرَّةِ وامسحْ خدَّها التَّرِبَا واسْتَوحِ مَن طوَّقَ الدُّنيا بما وهَبَا واسْتَوحِ مَن طيَّبَ الدُّنيا بحِكْمتِهِ ومَن علَى جُرْحِها مِن رُوحِهِ سَكَبَا شاءت الصدفة أن أتابع قبل أيام تقريراً توثيقياً، بثته إحدى الفضائيات العربية، حول التدمير المتعمد الذي تعرضت له المعالم الأثرية في بعض البلدان العربية .. حكى ذلك التقرير أنَّ مجهولين تسلَّلوا قبل أكثر من أربعة أعوام، تحت جنح الظلام الذي ينتمون إليه، إلى السَّاحة التي ينتصب فيها تمثال شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعرِّي في معرَّة النُّعمان وقطعوا رأسه، وبعدها بأيَّام قلائل قام آخرون مثلُهم بالاعتداء علي تمثال عميد الأدب العربي طه حسين في أحد ميادين مدينة المنيا المصرية .. كذلك أظهر التقرير صوراً لمجموعات "جهادية" وهي تجتاح بعملياتها العسكرية مدناً تاريخية في العراق وسوريا، مثل النمرود والحضر والموصل وسنجار وتدمر، وتتقصَّد الإغارة بمعاول الهدم والتدمير على الآثار السُّومرية والأكادية والأشورية والبابلية والإسلامية وغيرها، من أقواسٍ حجرية وأعمدة ونواويس وزخارف ومسارح ومكتبات ومحاريب وتماثيل تذكارية لمبدعين ومفكرين وعلماء وشعراء خلَّفوا تاريخاً مجيداً وإرثاً معرفياً عظيماً ما زال يشكل مرجعاً للإنسانية تعود إليه وتستفيد منه كي تواصل الصعود في مراقي العلم والإبداع والحضارة .. ومن جملة المشاهد والأحداث، التي وثَّقها التقرير، كان أشدُّها قسوةً وإيلاماً قيام بعض أفراد تلك المجموعات بإعدام عالم الآثار السوري البارز خالد الأسعد، صاحب الاكتشاف الأثري لمنحوتة "حسناء تدمر" ومؤلف عشرات الكتب والبحوث عن الآثار وتاريخها ودلالاتها، بقطع رأسه وصلب جثته على عمود كهرباء لأنه رفض الإفشاء عن مواضع الكنوز الأثرية التي يعرفها في تدمر وغيرها من المدن السورية. لم تكنِ السياسة وراء اجتثاث رأسَيْ تمثالَيْ المعرِّي وطه حسين، إذ أنَّ أيَّاً منهما لم يكن زعيماً لحزبٍ سياسي أو رئيساً لدولة مثل شاوسيكو وصدَّام وقذافي الذين تهاوتْ تماثيلهم بضربات المتظاهرين الغاضبين. وأغلب الظنِّ أنَّ شبهة التصنيم (أي نصب التماثيل للعبادة) ليست هي ما دفع أولئك المجهولين إلى الاعتداء على التمثالين. فالمعتدون على التمثالين يعلمون جيداً ألَّا أحد من الناس يعبد مؤلِّفَيْ "اللزوميات" و"الأيَّام" أو يُقدِّم لهما النُّذور، وأنَّ تمثاليهما ليسا سوى تعبيرٍ عن الإحتفاء والتكريم .. كما أنَّ تدمير المعماريات الحجرية ليس من مضامين المعتقدات الدينية، فقد ظلَّت تلك المعماريات الآثارية شامخة لآلاف السنين تعانق أشعة الشمس كل صباح رغم عديد المذاهب الدينية التي سادت وتعاقبت على الحكم في تلك الجغرافيا الرسولية. الأرجح أنَّ الذين راغوا ضرباً باليمين على تمثالَيْ المعرِّي وطه حسين كانوا في حقيقة الأمر يستهدفون العقلانية التي امتاز بها الرجلان اللذان، برغم فقدان البصر، امتلكا بصيرةً أطلقا بها دعواتٍ وثيقة الصِّلة بالتنوير. فما يجمع بين الرجلين، بخلاف محنة فقدان البصر، هو التحرر الفكري وإعمال العقل في الاجتهاد للوصول إلى ما يريانه حقاً وخيراً، بغضِّ النظر عما أصاب فيه أو أخطأ كلٌّ منهما .. المُستهدَف الفعلي بالفؤوس التي هَوَت على التمثالين هو أبو العلاء، رهين المحبسين، الذي قال: "فشاورِ العقلَ واتركْ غيره هدراً .. فالعقلُ خيرُ مشيرٍ ضمَّهُ النادي"، والذي سبق دعاة الاشتراكية بقوله: "فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي .. سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا". والمُستهدَف الآخر هو من أُطْلِق عليه عميد الأدب العربي الذي طرح رؤىً مثيرةً للحوار والجدل الذهني والذي رفع، إبَّان توليه وزارة المعارف، شعاره الإصلاحي التنويري الشهير "التعليم كالماء والهواء، يجب أن يكون مُشاعاً ومجَّانياً"، والذي رثاه نزار قبَّاني بقوله: "إرمِ نظَّارتَيْكَ ما أنتَ أعْمَى .. إنَّما نحنُ جوقةُ العُمْيانِ". أمَّا استهداف جحافل الظلام والجهل للمعماريات الحجرية الآثارية، فلأنهم يكرهون الجمال ويسوؤهم الحضور الزاهي للغة الحجر وبلاغته التي تحكي عمَّا تحقَّق عبر تاريخ الإنسانية من منجزات معرفية وعلمية وإبداعية وقِيَمية، مثل تلك المعاني التي حملها نصٌّ سومري قديم منحوتٌ على الحجارة: "هنا في سومر حيث مستوطنة الليل المقدَّسة، يرتفعُ المعبد اللازوردي من الرَّماد كجبلٍ شامخٍ في مكانٍ نظيف .. إنَّ هذه الحضارة القائمة بين النهرين لا تسمح بالأحاديث الكاذبة وكلمات العداء والانتهاكات والمشادَّات ولا تسمح بالظلم والقضاء الفاسد، ولا بالضعف والوشاية والحنث في الكلمة .. أيَّتُها الأرض العظيمة بين كلِّ أراضي الكون، أنت التي يغمرك ضوءٌ لا يخبو، يا من تسنين القوانين لكلِّ الشعوب من المشرق إلى المغرب" .. الظلاميون يستهدفون المعماريات الآثارية لأنهم يريدون إحداث قطيعةٍ مع المضيء من تاريخ أسلافهم - الذين سنُّوا أوَّل قانون "قانون حمورابي" ووضعوا الترقيم وأسَّسوا أوًّل مدرسة وكانوا أوَّل من كتب على الطين - ومع كامل التراث الانساني الحضاري لصالح مشروعهم الخارج من أقبية الجهل والظلام شاهراً سلاحه لإعدام البشر والتنكيل بالحجر !! قطَّاع الرؤوس الحيَّة وقطَّاع رؤوس التماثيل من قماشةٍ واحدة .. تصدر ممارساتهم عن رؤىً ظلامية تخاصم المعرفة وتعادي الإبداع والجمال، ومتطرفة لا تعترف بالتنوع البشري ولا تقبل الآخر المُختلِف ولا تجد حرجاً في إقصائه وتغييبه عضوياً ورمزياً.