عندما يترجّل الرئيس البشير عن كرسي الرئاسة والحكم حسب مسار الاستحقاق الدستوري الراهن، سيترك للمُؤرِّخين سجلاً ضخماً من الأحداث والتحولات، وستنوء الذاكرة الشعبية والروايات الشفوية من القفزات الهائلة وتزاحم الأضداد عبر مراحل الإنقاذ السِّياسيّة المُختلفة، وسيسعى العقل الشعبي للاستزادة من تناقضات التاريخ لضرورات الأنس الاجتماعي الموار بكثيرٍ من الاختلاقات الدرامية وقليلٍ من الحقائق الموضوعية، ولكن سيجري حكم التاريخ على أنه غيّر وجه السياسة في السودان للأبد باعتباره أول رمز للإسلام السياسي في العالم السني وخاتمة المشروع السياسي لليمين السوداني في السياسة والحكم، بما يعني أن حكم الإنقاذ قد دفع بأجندة اليمين السياسي إلى نهاياتها المنطقية ومنح تحالفات وتشكيلات اليمين المُحافظ في السياسة السودانية من مجموعات دينية وأحزابٍ وطنيةٍ وكتل اجتماعية، القوة السياسية والتجربة العملية والقاعدة الشعبية والقدرة والطاقة الحيوية للمحافظة على السُّلطة ومواصلة التأثير على تشكيلة الحكم لعقود طويلة قادمة. ولا تُوجد ترجيحات موضوعية لتغيير هذه المعادلة إلا بتفكيك هذا التحالف بالقوة الجبرية من غزو خارجي أو نصر عسكري حاسمٍ وهو أمر مستبعد. وسيضفي التاريخ على الرئيس البشير لقب أطول الحكام مكوثاً في كرسي الرئاسة، وأنه حافظ على كيان الدولة السودانية في ظروف بالغة التعقيد انهارت بأسبابها دول أشد رسوخاً في أسس الدولة والمجتمع والسياسة من السودان، وحَقّقَ إنجازات ملموسة في مجال التنمية والخدمات والبنية التحتية. وربما سيزيد العقل الشعبي في رواياته الشفوية الذي يحتفي بمناقب التواضع والفروسية في تمجيد شجاعته السياسية وهو يقتحم الأخطار ويقاوم آثار الحصار الدولي على البلاد ويتصدى لمؤامرة المحكمة الدولية ويواجه خصومه متجرداً في ميدان السياسة والقتال العسكري، لا سيما وقد خرج من كل معاركه التي خاضها حتى هذه اللحظة منتصراً. فقد تخلّص من كل خُصُومه السِّياسيين عبر كل المراحل والحقب من حلفائه الأقربين إلى أعدائه الأبعدين، وانتصر في جل معاركه العسكرية، حيث حرم خُصُومه من تحقيق نصر استراتيجي يكسر شوكة الدولة عبر العنف والتمرد والغزو المُباشر بمناصرة قوة خارجية. وسيأخذ عليه خُصُومه حقاً وباطلاً إنه عطّل مسيرة التحول الديمقراطي في البلاد، وإن جنوب السودان اختار الانفصال أثناء فترة حكمه وانتشر التمرد في دارفور في ذات حقبته. وشتت المعارضة بالتدابير السياسية والقوة الجبرية وإنه تولدت طبقة اجتماعية جديدة ارتبطت بدواوين الحكم والسياسة. سيكتب عنه التاريخ أنه اختار أن يُحافظ على كيان الدولة في ظروف حرب داخلية شرسة على حساب الحريات المطلقة مثله مثل كل الرؤساء في العالم الذين واجهوا ذات التحديات والظروف، فقد اختار الرئيس الأمريكي جورج بوش بمساندة الكونغرس صك قانون الوطنية الأمريكي الذي وازن بين الحريات المدنية والضرورات الأمنية التي أجازت التنصت وانتهاك الخصوصية، لكن سيكون العقل الشعبي مشغولاً بسرد إنجازات وإخفاقات الخدمات والبنيات الأساسية من صحة وتعليم وسكن وطرق وكهرباء ومياه، فيما ستنشغل الطبقة السياسية بقضية الحريات والمُشاركة السياسية وإقصاء الخصوم والتنكيل بهم وكسر شوكة التمرد. سيهتم المُؤرِّخون بعشريات السودان الثلاث، العشرية الأولى التي حكم فيها الدكتور حسن الترابي بشرعية التغيير الثوري وولاية الحركة الإسلامية عبر التمكين في السودان وقد بسط في ذلك الشيخ الترابي كتاباً عن عبرة المسير عَدّه البعض تحللاً من المسؤولية السياسية والفكرية. أما العشرية الثانية فقد شاركت الرئيس البشير في الحكم مراكز قوي أخرى برزت بعد المُفاصلة حملت معه مسؤولية النجاحات والإخفاقات حتى نصف العشرية الثانية التي انتهت بانفصال جنوب السودان عبر استفتاء شعبي حسب احكام اتفاقية السلام الشامل. لكن في ذات الوقت سيكتب التاريخ أنّ العشرية الثالثة تُعتبر حكماً خالصاً للرئيس البشير لم تنازعه فيها مراكز قوى مُتعدِّدة أو مشيخة دينية قابضة، وهي الفترة التي اكتملت له فيها سمات الكاريزما السِّياسيّة الطاغية وخصائص القيادة الفردية لدرجة أن الحزب الحاكم بنى حملته الانتخابية للاستثمار في كاريزما الرئيس السياسية وقيادته الشخصية لتحقيق الفوز في الانتخابات، وهي ذات الأسباب التي قادت كثيرا من قيادات الحزب والحركة الإسلامية لمُمارسة مضاغطات سياسية واجتماعية وشعبية لإعادة ترشيحه خوفاً من الانقسامات الداخلية وقيادة الدولة والمُؤسّسة العسكرية في ظل ظروف الحرب والحصار والمُواجهات العنيفة.