لدىَّ عدة ملاحظات على الفتاوى التي صدرت بتحريم الإضراب العام وتأثيم المشاركين فيه. وقبل أن أعرضها أسجل أنني غير مقتنع بالإضراب أو بمبررات العصيان المدني، وأسبابي في ذلك ليست شرعية ولا علاقة لها بالحرمة التي حذرتنا من الوقوع فيه الفتاوى التي نشرت يوم الخميس الماضي (9/2). وقد وقعت على اثنتين منها في جريدة «الشروق» يوم ذاك، الأولى صدرت عن دار الإفتاء ونصت على: أن الدعوة إلى الإضراب العام بمعنى إيقاف السكك الحديدية والمواصلات والنقل، وإيقاف العمل في المصانع والمؤسسات والجامعات والمدارس، والتوقف عن سداد الأموال المستحقة للحكومة (ضرائب وفواتير الكهرباء والمياه والغاز) حرام شرعا. وفهمنا من الخلاصة المنشورة للفتوى أنها أيَّدت التظاهر السلمي باعتباره من وسائل الاعتراض الجماعي التي عرفها المسلمون، ولكن لا ينبغي أن يصل الإضراب إلى الحد الذي سبقت الإشارة إليه. الفتوى الثانية أطلقها الداعية المعروف الدكتور عمر عبدالكافي في أحد البرامج التلفزيونية، ونشرت «الشروق» مضمونها، وفيها اعتبر من يدعون إلى الإضراب العام والعصيان يوم 11 فبراير، ومن يشارك فيه «آثمين شرعا»، لما يسببه الإضراب من تعطيل لمصالح الناس وتعويق للنهوض بالوطن. إذا صح ما نسب إلى المصدرين، فإن ملاحظاتي عليه أوجزها فيما يلي: إن القول بحرمة الإضراب أمر مستغرب. حتى أنني أشك في صدور الحكم بتلك العبارة عن دار الإفتاء، وأتمنى أن تكون تلك صياغة المحرر. ذلك أننا نعلم أن التحريم لا يكون إلا بنص صريح في القرآن. كما نعلم أن أئمة الفقه إذا استهجنوا أمرا واستنكروه فإنهم كانوا يقولون بكراهته وليس حرمته. بذات القدر فإنني أستغرب الحكم بتأثيم من يشترك في الإضراب أو العصيان. إذ القول بذلك يفترض حرمة التصرف وهو أمر غير قائم كما ذكرنا، خصوصا أن التظاهر أو الاعتصام قد يكون من مقتضى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، المطلوب شرعا. إن إطلاق القول بحرمة أو حتى كراهة التظاهر أو العصيان فاسد من الناحية الأصولية، إذ العبرة بالقصد من وراء ذلك وبثبوت غلبة الضرر على المصلحة في الحالة موضوع الفتوى. ذلك أن مثل ذلك التظاهر أو الاعتصام قد يكون مطلوبا للتعبير عن الاحتجاج على حاكم ظالم ومستبد، أو في مواجهة غاصب محتل. حتى أزعم في هذه الحالة أنه قد يكون المكروه حقا هو القعود والاستسلام للظلم أو الاحتلال، والامتناع عن المشاركة في مقاومة الاثنين. إنه إذا كان لابد من الاسترشاد بالحكم الشرعي في المسألة، فإن موضوع المناقشة ينبغي أن يتطرق إلى الغايات والمقاصد. وليس الوسائل فقط. ويكون الفيصل في الإباحة أو الكراهة هو المقارنة بين الضرر والمصلحة، لترجيح الأولى على الثانية، أو بين مراتب المفاسد لأننا قد نقبل بمفسدة صغرى لتجنب الوقوع في مفسدة كبرى. ومثل تلك الترجيحات لا تقود إلى القرار الصحيح إلا في ضوء التدقيق في الوقائع والتعرف على مآلات التصرف وغاياته. إنني أخشى على الفتاوى التي تصدر وعلى خطاب المؤسسة الدينية بشكل عام من التأثر بالأجواء السياسية. ولا أخفي أنني شممت في ثنايا ما صدر من فتاوى أو بيانات رائحة التوجيه السياسي. بما يعني أنها صدرت لوجه العسكر وليس لوجه الله. ذلك أنه على ما حفلت به مصر من تظاهرات واعتصامات خلال العام المنصرم، فربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يحرم فيها الإضراب بفتوى شرعية ويؤثم من دعا إلى الإضراب والعصيان ومن شارك فيهما. ومع كل التقدير للذين قالوا بذلك إلا أنني أحذر من «ترزية» الفتاوى، الذين أرجو ألا يزاحموا ترزية القوانين الذين عانت مصر فيها طويلا، «وفلولهم» لا يزالون بيننا. في هذا الصدد فإنني أكرر ما سبق ما قلته أكثر من مرة إننا مفتوحو الأعين دائما لتدخل الدين في السياسة. في حين نغض الطرف عن تدخل السياسة في الدين. والموضوع الذي نحن بصدده يبدو نموذجا لذلك الصنف الأخير.