أما الخطاب الدعوي فلا يأتي على وتيرة واحدة.. ولا يكون على نمط واحد.. لا في اللين ولا في الشدّة.. ولكنه يأتي على مقتضى الظرف ومقتضى الحال.. ومقتضى المخاطَب به.. وقد كان الصحابة يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة.. أي ينظر إلى ملاءمة الظرف وتهيُّؤ النفس إلى القبول.. فالإنسان لا يكون في كل أحواله مهيأً لقبول الحق حتى وإن كان الحق ظاهراً. وإن من الأساليب الدعوية المستبصرة ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، إن من جلس بحضرة رجل يحتضر ويجود بأنفاسه فلا يخاطبه مباشرة بتلقين الشهادتين، أي لا يقول له مباشرة: قل لا إله الله.. قل لا إله إلا الله.. ولكن ليجلس منه حيث يسمعه وليكرر هو الشهادتين برفق مرة بعد مرة.. وذلك إن حالة النزع شديدة الإيلام على الإنسان ويُخشى عليه في تلك الحالة ألاّ تُقبل الشهادة وربما بدر منه ما لا يُحمد في حق دينه أو بيته أو ربّه... وكذلك إذا كان الرجل غاضباً وثائراً ومنفعلاً فلا تكثر عليه من طلب الاستغفار وطلب الصلاة على النبي خشية أن يدفعه الغضب إلى قول ما لا يُحمد دنيا أو آخرة وإن الخطاب الدعوي الواعي أن تستغفر أمامه وأن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأن تُكثر من ذلك. ومن بيان الهداة المهتدين في ذلك أن عبد الله بن عمر سمع رجلاً عطس ثم قال «صلى الله وسلم على رسول الله» فقال له ابن عمر: وأنا أقول صلى الله وسلم وبارك على رسول الله ولكننا لم نؤمر بالصلاة ها هنا ولكن أُمرنا بأن نحمد الله فنقول: الحمد لله. ومن ذلك حالات يُضطر فيها الداعية إلى تجاوز حالة الرفق واللين إلى قول الحق مع ما فيه من الشدّة والغلظة وما قد يتعرّض له من الإيذاء والابتلاء. وكلّما اشتُهر حلم ذي السلطان كان أكثر تعرُّضاً لمثل هذه الشدائد من أناس لا يبالون على أي وجه جاءت مكافآتهم.. أو جاءت مصارعهم. وقد لقي معاوية بن أبي سفيان من هؤلاء وأضرابهم الأهوال والشدائد ويكفيه ما لقي من دارمية الحجونية ومن أم الخير بنت الحريش ومن أروى بنت عبد المطلب وكانت أشدهنّ عليه: أما دارمية فكان مما قال لها معاوية لما رأى شدة حربها على علي بن أبي طالب وشدة حبها له فقال لها: فلذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك وربت عجيزتك؟ قالت يا هذا بهندٍ والله كان يُضرب المثل في ذلك، لا بي، فأسرع معاوية إلى أن قال: يا هذه اربعي فإنا لم نقل إلا خيراً. ثم سألته فأعطاها مائة ناقة حمراء بفحلها وراعيها ثم سألها هل أحل عندك محل علي بن أبي طالب فقالت: ماء ولا كصواء، ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك يا سبحان الله أو دونه. قال معاوية: لو كان علي حيًا ما أعطاك منها شيئاً قالت كلا والله ولا وبرة من مال المسلمين. وأرسل معاوية إلى أم الخير بنت الحريش، وكانت تؤلِّب الناس عليه، وهي مع علي، ورثت عمار بن ياسر لما قُتل رثاءً بليغاً ونالت من معاوية وبني عبد شمس وأجلبت عليهم. ولما جاءت سألها فاشتدّت عليه في القول حتى قال لها ما أردت بقولك هذا إلا أن أقتلك ولو قتلتك ما حرجت في ذلك! قالت: والله ما يسوؤني أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه. وسألها أسئلة يريد أن يحرجها سألها عن عثمان وطلحة والزبير فردّت عليه ثم قالت: فإن قريشاً تحدثت أنك أحلمها فأسألك إن تسعني بفضل حلمك وأن تعفني من هذه المسائل وتسألني عما شئت من غيرها، قال نعم، ونعمت عينًا قد أعفيتك منها ثم أمر لها بجائزة رفيعة وردّها مكرمة. فأما أروى بنت الحارث بن عبد المطلب فدخلت على معاوية ووجدت عنده عمرو بن العاص وقالت لمعاوية فأغلظت عليه في القول فزجرها عمرو بن العاص ووصفها بالعجوز الضالة، فقالت له وأنت يا ابن النابغة تتكلم وأنت وأمك كذا وكذا.. وكان من أمه أمور في الجاهلية.. فأسكتته فانبرى لها مروان بن الحكم وأمرها بالسكوت فقالت له وأنت أيضاً يا ابن الزرقاء تتكلم.. ثم التفتت إلى معاوية وقالت والله ما جرّأ هؤلاء عليّ غيرُك فإن أمك القائلة في قتل حمزة: نحن حزبناكم بيوم بدر.. والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان لي عن عتبةٍ من صبر.. وشكر وحشي واجب عليّ دهري حتى ترم أعظمي من قبري قالت: فأجابتها بنت عمرو وهي تقول: يا بنت جبار عظيم الكفر.. خُزيت في بدر وبعد بدر فقال لها معاوية عفا الله عما سلف يا عمة هاتي حاجتك قالت مالي إليك حاجة وخرجت عنه. ودخل ثلاثة علماء: مالك وابن سمعان وابن أبي ذئب على المنصور فسألهم: أي الرجال أنا عندكم؟ أما مالك فسكت فسلم، وأما ابن سمعان فتكلم وقال خيراً فسلم، وأما ابن ذئب فقال للمنصور أنت والله عندي شر الرجال استأثرت بمال الله ورسوله وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وأهلكت الضعيف وأتعبت القوي وأمسكت أموالهم فما حجتك غداً بين يدي الله؟ فقال له المنصور ويحك؟ ما تقول؟أتعقل؟ انظر أمامك! قال: نعم قد رأيت أسيافاً وإنما هو الموت ولا بد منه وعاجله خيرٌ من آجله. ثم خرجا وبقي مالك. ولما خرجوا جميعاً أرسل وراءهم المنصور بصُرر وقال لمن حملها أن يقطع رأس ابن أبي ذئب إن قبلها وأن يقطع رأس ابن سمعان إن رفضها وجعل مالكاً حراً في الرفض والقبول! فيا لهؤلاءالقوم!! أين لنا علماء مثل ابن أبي ذئب ومثل مالك ومثل ابن سمعان؟ وأين لنا ظَلَمة مثل المنصور!! هذه نتف مما قد يحتاج إليه الداعية وكلها مذكورة ومدخورة في الأمهات من كتب السيرة والشمائل وفي علم الرجال وفي علم الحديث وفي التفسير وفي الفقه.. كل الذي نحتاج إليه من يُحسن استخراج كنوزها ونفائسها.. أما بيوتات التدريب هذه التي تُجمع من غناء أوروبا وأمريكا.. وتصطاد به أموال أقوام لا يدرون ماذا بالضبط يريدون فهي والله لن تخرِّج دعاة ولا ساسة ولا قادة ولا أئمة.. إن الذي يحتاج إليه الداعية من حسن الخطاب مركوز في أنواع من المعارف والأصول. يحتاج إلى رصيد من القيم يتحلّى بها ويتعامل بها مع الناس وكلها في السيرة والشمائل.. ويحتاج إلى رصيد من المعارف يميِّز بها بين الحق والباطل والحلال والحرام.. وكلها مدخرة في علوم القرآن والحديث والفقه وعلم الرجال والتاريخ ويحتاج كذلك إلى مهارات شخصية على رأسها مهارة البيان والبلاغة ثم علوم الاتصال والقليل من علم الإدارة.