أعترف بأنني من أكثر المستمتعين بأدبيات الصادق المهدي السياسية الطريفة التي يستقيها عادة من التراث المحلي رغم اختلافي في معظم الأحيان مع مضمون رسالته. وكتبت عنها من قبل.. وتشاركني فيها العديد من الأقلام بالاهتمام بها، فالصحف كثيراً ما تبرزها في صدر صفحتها الأولى نظراً لطرافتها لأن جلها يأتي في باب المبارزة السياسية مع خصمه المؤتمر الوطني، ولعل أشهرها عبارة «أكلوا توركم وأدوا زولكم» التي قالها إبَّان الانتخابات التشريعية القومية الأخيرة، حيث حثَّ مؤيديه على أن يدلوا بأصواتهم لحزبه بعد أن يأخذوا مكرمة المؤتمر الوطني التي يحاول أن يكسب بها الناخبين، ذلك لأنه يدرك أن التنافس المادي بينه وبين الوطنى غير متكافئ، فأراد أن يقول بعبارة أخرى «شيلوا منهم العايزنو لكن ما تنسونا»، لكن في آخر مساجلاته مع منافسه وخصمه اللدود المؤتمر الوطني عبر حوار مع صحيفة «الأحداث» نشر أمس، بدا المهدي غاضباً في أعقاب صدور مذكرة ناقدة للحزب، متهماً المؤتمر الوطني بأنه يقف وراءها، واتهمه بأنه ينقب في «الجبَّانات» ويستنهض أصحاب بعض القبور قائلاً: «المؤتمر الوطني يمشي إلى مقابر حزب الأمة للتحدث مع الموتى عن حال الحزب، إذ هم موتى سياسياً وقاعدين في بيوتهم ولا شغالين ولا نشطين ولا متحركين وكلامهم كلام بعاعيت» واتهم الوطني بأنه يدمر الأحزاب، وأشار إلى أنهم سيعقدون مؤتمر الهيئة المركزية، ثم أضاف: «الما دايرنا يختانا»، كل هذه السخرية الممتزجة بالإرث الشعبي والمفردات العامية اختزلت كلاماً كثيراً، وربما فجَّر المهدي أكثر منها عبر اللقاءات الشعبية المباشرة، فإن اتفقنا أو اختلفنا معها فهي تمثل أدباً سياسياً مميزاً. وبالرغم من أن استخدام العامية واستلاف الأمثال الشعبية في الخطاب السياسي أمر مألوف في الساحة السياسية منذ الاستقلال، إلا أن ما يميز المهدي هو جودة وعمق وطرافة الاستدلال وتوظيفه بحنكة ومكر سياسي، لكن المهدي الذي اتهم «الوطني» بالبحث في «الجبَّانات» والمراهنة على الموتى، لا ندري كيف سيتصرف إذا خرجت من هذه المقابر مجموعة من الدراكولات «مصاصو الدماء» فهجموا على الحزب بليل وجففوا موارده في عدة شهور «وطفشوا» كوادره، ولم يجد المهدي إلا رهطاً قليلاً يؤازره في استحياء، وبالطبع الانتصار في هذه المعارك ليس كما فى أفلام «الأكشن» باستخدام أسلحة خاصة تنال من هذه الكائنات الخطرة، لكن ذلك يتمثل فى تطابق القول مع العمل، والاتكاء على المرجعيات والثوابت، والبعد عن البراجماتية الانتهازية، وعندئذٍ فإن المراهنة على الأموات لن تجدي ولو سالت من أنيابهم الدماء. خارج النص: النطاسي البارع والإنسان د. كمال أبو سن، يتحفنا في «الإنتباهة» كل ثلاثاء عبر عموده في الصفحة الطبية، حيث تبين لنا أن الدكتور البارع في استخدام المشرط في عمليات زراعة الكلى بارع أيضاً في رسم الكلمات، فالمقال عبارة عن خواطر مع مرضاه، إذ يبحر في ذاكرته مستدعياً العديد من المواقف الطريفة والإنسانية بلغة بسيطة وشفافة أقرب إلى الأسلوب الروائي، والمذكرات تكشف مدى تواضع وتعامل الدكتور مع مهنته، ليس بمنطق الكسب المادي، فهو يتعامل مع مرضاه كما الصديق الوفي، فيتبسط معهم دونما حواجز وبود غير مصطنع، ويداعبهم ويستمع إليهم ويتواصل معهم بعد العمليات بلا ضجر أو ملل، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية وثقافاتهم المتباينة.. التحية لك ودمت ذخراً لبلدك والإنسانية .