الاتفاق الإ طاري الذي تم توقيعه بالأحرف الأولى بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في العاصمة الإثيوبية الأسبوع المنصرم خلّف غصة لا تزول، وكربة لا تنجلي بين أوساط هذا الشعب الصابر على عرك الشدائد، وجعله يجتر كل الصور القاتمة التي تمخضت عن نيفاشا.. تلك الاتفاقية التي أذلت ناصية السود وجعلتهم يتردون في أزقتها المعتمة، وأتونها الحارق بضع سنين، مازال سدنتها يكيلون لها المدح جزافا رغم أنها لم تترك للوطن الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، ثاغية أو راغية. إن اليقين الذي لا يخامره شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن تلك الاتفاقية التي تتعاورها الألسن، وتتداولها القرائح، مترعة بالظلم البين، ومشحونة بالعسف الشديد لإنسان الشمال، الذي استبدّ به القلق، وتملكه الامتعاض، لشعوره ببوادر الإذلال الذي ظلّ يتجرع غصصه طوال فترة نيفاشا، خمس سنوات عانى فيها صاحب الحس السليم، والخلق القويم، سلسلة طويلة من حالات الغبن أفضت في نهاية المطاف لانسلاخ الجنوبيين عن كينونة الوطن الواحد. ولعل السؤال الذي يطل بعنقه لماذا أقدم الحزب الصمد الذي لا يضاهيه حزب في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، على هذا الاتفاق الذي يفتح من وجهة نظري القاصرة باباً يلج منه الشر المستطير، فنحن إذا نظرنا إلى بنود هذا الاتفاق لوجدنا فيه نوازع حياة تبددت فيها أسباب الأمل لبعض القبائل التي دأبت أن تجد في غابات وسهول الجنوب مرعى لماشيتها، أما أصحاب النحل الخبيثة والمطامع الخسيسة الذين تغدق لهم دول البغي العطاء، وتكيل لهم الثناء، فلقد لاح البشر على وجوههم، وأومضت ثغورهم بالابتسام، نعم لقد رأينا باقان أموم الذي يضطرم صدره بالعداوة، وفؤاده بالسخائم، يضحك في جزل، ويبتسم في وداعة، ويعانق في ألفة، لأنه لا يرى في هذا الاتفاق مصيبة يرفضّ لها الصبر، ويضيق بها العزاء، لا يرى أن الشمال الذي استقر أمره، واتسق حكمه، واستبان طريقه، سوف يعود إلى سابق عهده في وضع المشروعات، وتقديم المقترحات، وتأليف اللجان، التي تبدد الأجواء الملبدة بعبق الخمر، وأنفاس الغواني، وصخب الجريمة، بل يرى باقان السادر في غوايته، والممعن في ضلالته، في هذا الاتفاق نصراً ثميناً لحكومته التي تحمل شبحاً قاتماً من ممارستها القمعية لقاطني الجنوب، تلك الحكومة التي قذفت الرعب في كل قلب، والشقاء في كل منزل، مازالت تدعم الحركات المتخلفة العجفاء التي تشن الغارة تلو الغارة على مدن الشمال، ولم تجد الحركة الشعبية جداراً تتكئ عليه سوى هذا الاتفاق الذي يكفل لها مغادرة آلاف مؤلفة من الأفواه التي كابدت وطأة الغرث والجوع صوب الشمال، والشمال موطن كل مبتغى، ومهبط كل مرتجى، صاحب العطايا الجزلة، والمواهب السنية، نعته باقان الذي يدور برأسه الغرور، ويذهب بنفسه العناد، بنعوت تذهل عقل الحصيف، وتجعل من ينضدون اللفظ، ويجودون المعنى، يتبارون في قدح هذا المأفون الذي زعم في أحد هطرقاته أنه أرتاح من وسخ الخرطوم التي استعبدت عترته، وسامتهم بخسف حقباً من الزمان. ينبغي على حُكامنا الأماجد الذين يحتفون بمن يتهم رأس الدولة بتهم يندى لها الجبين ويدمغنا بشوائب النقص، وفرية العنصرية، أن يأجلوا التوقيع على هذا الاتفاق، حتى تحل معضلة أبيي، والحركات المسلحة التي تأويها جوبا وتدعمها في سخاء، وتُرسم الحدود التي خبرت لجة المعارك، واعتادت على صخب الحروب، وينتهي النزاع حول النفط الذي لم تصبهم شآبيب البلاء إلا من جراء توقفه.