حرصت جداً على متابعة الحلقة الإذاعية من برنامج «مؤتمر إذاعي» أمس الأول التي خُصصت لمناقشة تطورات العلاقات بين السودان وجنوب السودان واستضافت فيها كلاً من إدريس عبد القادر وباقان أموم، وأعتقد أن هذه الحلقة ربما كانت أكثر حلقة حظيت بمتابعة المستمعين، بسبب الطبيعة الجدلية للقضية التي تطرحها الحلقة وبسبب أن ضيفيها هما رئيسا وفدي البلدين لمفاوضات أديس ابابا الأخيرة. وحرصي على المتابعة كان من أجل الحصول على إجابة محددة لسؤال ظل عالقًا في ذهني وأعيتني الإجابة عنه وأظن أن هناك كثيرين مثلي، والسؤال الأهم والرئيس هذا هو ما هو التطور الجديد الذي دفع جوبا إلى إحداث هذه «النقلة» التي هي أشبه بالانقلاب المفاجئ في موقفها تجاه السودان وتجاه الرئيس البشير تحديداً؟. أصغيت إلى الحلقة لعلي أجد ما يبدد القلق بشأن حقيقة هذا الحراك المتسارع والكثيف في ملف العلاقات بين جوباوالخرطوم في ظرف زمني ضيق، خاصة وأن ما أثير حول علاقات البلدين واتفاق الحريات الأربع من تساؤلات وما حظي به من اهتمام شعبي وإعلامي كان هو الآخر كثيفاً وشغل الرأي العام السوداني وما يزال يشغله، فقلت إن هذا التناول الكثيف سيمثل دافعاً لكل من الرجلين لشرح القضية وإلقاء مزيد من الأضواء عليها وأن تكون فرصة جيدة في وجود باقان لوضع النقاط على الحروف أو ما يقوله الإنجليز to dot Is and to cross Ts»»، ولكن وللأسف لم أجد ما يمكن إمساكه «لاستخلاص» إجابة محددة للسؤال الذي يدور في أذهان الجميع «ما السبب» وراء هذا الانقلاب في الموقف الجنوبي. حديث باقان وإدريس كان عبارة عن حديث علاقات عامة المجاملة فيه كانت هي الأساس والملمح البارز وقام على قاعدة من الأماني والآمال ودار الرجلان يحرثان في بحر من العبارات التي لا يمكن الإمساك بها والتي تمحورت في ضرورة عقد قمة رئاسية بين البشير وسلفا. ولم يغادرا هذه المحطة وقد برع باقان في الظهور بمظهر الحمل الوديع الذي جاء بدفع من الحرص على علاقات طيبة مع السودان، ونجح في الترويج لهدفه الذي جاء من أجله وهو إكساب زيارة الرئيس البشير أهمية كبرى وتصوير لقاء القمة في جوبا بأنه «الوصفة السحرية» التي ستعالج كل أسقام العلاقة بين البلدين والمفتاح الأساسي لحل جميع القضايا الشائكة وأنها الملاذ الأخير وشاطئ الأمان الذي سترسو عليه سفينة العلاقات بين البلدين ليعيش بعدها شعبا البلدين في «تبات ونبات ويخلفوا البنين والبنات». وقد سايره إدريس في ذلك حذوك النعل بالنعل، وهو ما أفرغ الحلقة من محتواها وسلبها أهم ما كان يتوقعه المستمع منها وهي أن تكون عبارة عن «لقاء ساخن» أشبه بالمناظرة، ولا أدري لماذا لم يتم استضافة أحد رموز معسكر الرفض لاتفاق الحريات الأربع والمعارضين لزيارة الرئيس إلى جوبا، كيف فاتت على مقدم البرنامج هذه النقطة الأساسية؟ أم أن ما وراء الأكمة ما وراءها، لأنه في ظل وجود صوت رافض مشارك داخل الإستديو كان ذلك سيفيد المستمعين من خلال إثارة هذا الصوت للنقاط المسكوت عنها والتي لا يمكن لباقان وإدريس أن يثيراها بحكم القيود الرسمية المفروضة عليهما فكان أن كانت الحلقة عبارة عن «مونولوج» ثنائي الأداء لم يقدم إجابات مقنعة ولا أفكارًا تصلح كقاعدة للبناء عليها لتفسير إصرار جوبا على زيارة البشير وتعليق إصلاح العلاقات بين البلدين على ذهاب البشير إلى جوبا فقط وليس انعقادها في أية عاصمة أخرى! بل السؤال الأهم والجوهري في تقديري هو هل عقد لقاء قمة هو المدخل الصحيح لإعادة إعمار أو إصلاح العلاقات بين البلدين بالنظر إلى حالة العلاقات الحالية بينهما ؟، فعلى حد علمي فإن لقاءات رؤساء الدول والحكومات والتي تسمى بدبلوماسية القمة يجب أن يسبقها حراك دبلوماسي تقليدي بالإعداد الجيد لكل القضايا من قبل المختصين بذلك في كل من الدولتين أو الدول الأطراف في القمة، وأن هذه القمة تكون دائماً هي خاتمة لما تم القيام به من home work على المستويات الأدنى ولا تكون بأي حال من الأحوال هي البداية للعمل الدبلوماسي، وذلك لسبب جوهري وأساسي ووحيد وهو أن دبلوماسية القمة لو فشلت فإن فشلها سيكون نهائياً ولا تكون هناك فرصة بعدها لتدارك الأمر، بخلاف الوضع فيما إذا تمت الاتصالات على مستوى الوزراء والسفراء مثلاً ففي هذه الحالة فإن فرص حدوث فشل ضئيلة فضلاً عن إمكانية مراجعة ما تتمخض عنه بلا حرج وبلا حساسية. صحيح أن لقاءات القمة لها القدرة والدور الفعال في حل مشكلات كبيرة ووضع حلول جذرية لها، وصحيح أنها ساهمت في حل كثير من المشكلات والنزاعات الدولية الشائكة وتوصلت فيها إلى اتفاقيات دولية مشهورة، وصحيح أنها تتسم بالسرعة في اتخاذ القرار السياسي بما لدى رؤساء الدول والحكومات من صلاحيات واسعة وتفويض كامل يساعد على توفير الوقت والجهد وبالتالي الوصول إلى كلمة سواء، ولكن تحقق ذلك مشروط بالتحضير الجيد وبتوفر مناخ موات ووجود توافق واستعداد نفسي بين طرفي أو أطراف دبلوماسية القمة. البعض ساق معاهدة كامب ديفيد كمثال على إمكانية نجاح دبلوماسية القمة بين البشير وسلفاكير، ولكن نسي هؤلاء أن هناك نقاط اختلاف عديدة بين الحالتين تجعل من محاولة اتخاذ هذه المعاهدة كنموذج للاحتذاء به من قبل الدولتين، محاولة فاشلة، فقد سبقت قمة كامب ديفيد اتصالات عديدة على مستويات أدنى قرابة العامين، وأن زيارة السادات إلى إسرائيل كانت بمبادرة شخصية منه ولكن المحادثات الرسمية والحقيقية والتي أنتجت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل جرت في أمريكا في ولاية ميريلاند في منتجع «كامب ديفيد» الرئاسي بإشراف ورعاية مباشرة من الرئيس الأمريكي جيمي كارتر واستمرت لمدة اثني عشر يوماً ولم تعقد في تل ابيب أو القاهرة وكان المحور الرئيس في محاور المعاهدة هو إنهاء حالة الحرب بين الدولتين. والشاهد في ما سقناه هنا أن أهم عنصر في نجاح الجانبين المصري والإسرائيلي في التوصل إلى هذه المعاهدة هو أنها عُقدت في مكان ثالث وسبقتها تحضيرات كبيرة وتحت إشراف وبضمانات طرف دولي ثالث فهل هذا متوفر الآن في ما يجري بين جوباوالخرطوم؟. والسؤال الذي نفتأ نذكره حتى نكون حرضاً هو لماذا الإصرار على البداية بالمقلوب لماذا الإصرار على بناء سقف العلاقات بين البلدين من غير «عَمَدٍ»، لماذا لم تقابل الخرطوم إصرار جوبا على عقد القمة فيها بإصرارٍ مثله على عقدها «إن كان ولا بد» في عاصمة ثالثة أخرى؟.