ماذا تقولين؟ اعيدي على ما قلته للتو.. صرخت نعمات تسأل المرأة المنكمشة قربها والتي تنظر إليها بخبث وعلى وجهها ارتياح غامر.. اجتاح رأس نعمات صداع شقه نصفين مما جعلها تضع أصبعيها بجانبيه تمنع انفجاره.. ما سمعته من هذه المرأة رهيب وبشع.. لقد شاركت للتو في جريمة لا يد لها فيها.. تطلعت إلى المرأة قربها.. ليتها لم ترها أبدًا.. بدأ لها صباح اليوم بعيدًا جدًا.. هل فعلاً زارتها محاسن فيه؟ اتذكر أنها جاءت مع أختي الكبرى ومعها ابنتها منال لزيارتها لأول مرة فى حياتها وهي إحدى قريباتها.. غادرت أخت نعمات تاركة الضيفتان.. ونعمات تسألها بعينيها عن هدفها من ذلك.. لم ترد عليها.. خرجت نعمات إلى المطبخ لتجلب لهن بعض الضيافة لتفاجأ بالابنة منال متشبثة بعنق والدتها ووجهها يتقلص ألمًا: ماذا بها؟وما هذه الدماء؟ كانت هناك بقعة كبيرة تتجمع قرب منال؟ إنها تلد.. ردت والدتها ببرود! ماذا؟ الآن؟ نعم.. أصرت على الحضور معى إلى الخرطوم ولم تكن تدري متى ستلد.. وجدت نعمات نفسها بعد قليل داخل سيارة في طريقها إلى المستشفى وهي تستحث السائق ليزيد سرعته.. جلست تنتظر قرب محاسن في توتر.. ثم سألتها فجأة: لماذا أعطيتِ الممرضة اسمًا مختلفًا؟ تجاهلتها محاسن التي كانت تهرع في تلك اللحظة إلى ابنتها التي عادوا بها وقد صارت أمًا لصبي مجعد الجسد.. نسيت سؤالها ووقفت قربها تهنيئها بالمولود بينما والدتها تغمرها بالقبلات متجاهلة صغيرها.. الذي كان يتحرك في وهن.. تحيرت نعمات من هذا الموقف قليلاً.. أعطتها بعض النسوة أغطية وملابس للصغير بعد سماع حكايتها وأنها جاءت زائرة ثم فاجأها المخاض.. ارضعيه يا منال.. نظرت إليها منال في تساؤل.. أشارت نعمات للطفل! ابنك بالطبع.. آه ثم تركتها للتحدث إلى والدتها التي لم تعر الطفل التفاتًا! ألحّت نعمات.. وقربت الطفل إلى أمه التي حدجته بنظرة لا مبالية.. ارضعيه يا نسمة.. أليس هذا اسمك أيضًا؟ لاح خوف عابر على وجهي المرأتين.. قالت محاسن بتردد: أجل أجل ..ارضعي ابنك.. ارتاحت نعمات قليلاً ولكن هناك شيئًا ما كان يقلقها.. لم ترتاح لمنظر المرأتين أبدًا ولم تحبهما منذ البداية، ولكنه الواجب هو ما دفعها لمساعدة قريبتها في محنتها.. وقع بصر نعمات على الاسم المكتوب على ورقة قرب ابنة محاسن: هل اسمك هو منال أم بسمة؟ ضغطت محاسن يدها في قوة ألمت نعمات فنظرت إليها في حيرة: صه.. همست محاسن في فحيح.. تذكرت نعمات قريبتها هي بالفعل تشبه بعض الثعابين.. مالأمر؟ همست نعمات.. تعالي.. قادتها محاسن لمكان بعيد.. والحيرة تشتد بنعمات ..التي سألت: أين بالمناسبة زوج ابنتك؟ فأجابت محاسن وهي تتلفت حولها في حذر: ابنتي غير متزوجة! ماذا تقولين؟ هل الطفل؟ لا لا.. واشركتيني إنت وأختي في هذه الجريمة؟ ماذا أفعل الآن؟ بل ماذا ستفعلان بالطفل؟ لم ترد محاسن وظهر ظل ابتسامة على وجهها..آه.. ستقتلانه بلا شك.. هل ستتركيه هنا؟كلا بالطبع سنحمله معنا فقد يتعرفون علينا فيما بعد.. نهضت محاسن مسرعة بعد أن سمعت إحدى النساء تناديها.. ظلت نعمات تجلس في انهيار.. ستقتلانه.. ولاح لها الوجه المغضن الصغير.. ماذنبه؟ لولا أن لها ابنتين في سن الزواج لأخذته معها لتربيه حتى لا يضيع كغيره في ضباب الحياة سنذهب الآن يا نعمات.. كانت تقفان قربها وتحملان الطفل ملفوفًا حتى وجهه.. أسرعت يداها تزيحان الغطاء عن وجهه حتى لا يختنق.. لن تسمح لهما بقتله.. وبعد قليل كانت تركب سيارة أجرة مع المرأتين والطفل وحزن رهيب يلفها وهي تنظر إليه بعينين غائمتين بالدمع.. وانتهرت البنت أرضعيه الآن.. حتى يشبع.. وأكملت بقية الجملة في قلبها الدامي: لأنها ستكون آخر عهده بأمه.. يا للصغير المسكين.. توقفت السيارة قرب إحدى المستشفيات وترجلت المرأتان وهما تنظران إلى نعمات في تساؤل فهي مَن أحضرهما إلى هنا: انتظري أنت هنا يا منال أو أيًا كان اسمك وأنت يا محاسن احضري الطفل واتبعيني.. ظهر خوف غامر على وجه محاسن ولكن نظرة صارمة من عيني نعمات جعلتها تذعن.. سارتا إلى داخل المستشفى ومرتا عبر عدة أبواب ونعمات تبحث عن بغيتها حتى وصلتا إلى غرفة تركها أحد الأطباء منذ قليل لكنه سيعود إليها لأن حقيبته ما زالت هناك ونظارته: اتركيه هنا على المنضدة بسرعة.. وغادرتا المكان وقبضة من الألم تطحن جوف نعمات وارتياح بغيض على وجه محاسن التي حاولت أن تتحدث إلى نعمات فاشاحت بوجهها عنها.. ومضت بعيدًا عنهما عائدة إلى بيتها ووجه مجعد يلوح في خيالها ويدان صغيرتان تقبضان المجهول ولم تنم نعمات منذ ذلك اليوم.. ترى ماذا حل به.. ذلك الصغير الضائع؟