أتابع منذ فترة اجتهادات النائب الأول لرئيس الجمهورية الاستاذ علي عثمان محمد طه وهو يدفع الناس والأمور دفعاً لتعزيز ثقافة الزراعة، فرفع شعار النفرة الزراعية.. وتوطين القمح في الولاية الشمالية والنهضة الزراعية والتمويل الأصغر.. ثم استمعت إليه وهو يتحدث عن نماذج المنتجين في معرض الخرطوم الدولي يشيد ويشجع ويحفز.. ويطالب المصارف بالتيسير على طالبي التمويل الأصغر، وأن يطلقوا ربطات أعناقهم قليلاً ويغبروا ياقاتهم البيضاء بقليل من الأتربة والكتاحة لمتابعة حركة الزراعة والمنتجات التي قاموا بتمويلها، لا أن يبقوا قابعين تحت المكيفات الباردة ويتعاملون مع الناس من خلال المستندات الدفترية، وأن ييسروا على الناس ويفتحوا لهم أبواب الأمل في الإنتاج والإنتاج وحده.. ولن تتحقق الكفاية لنا ولغيرنا إلا بتيسير عمليات الزراعة في مختلف مراحلها.. ومنح الأراضي وإعطاء أهل البلد الجادين الأولوية، ومساعدة الذين لديهم الاستعداد وليس الذين لديهم الإمكانات.. والصبر عليهم حتى يتحقق النجاح.. فالزراعة في الشمالية ومناطق الري المستديم ليست مثلها في مناطق الزراعة المطرية.. فإنها تمر بمخاطر كثيرة، وتحتاج إلى تضافر الجهود وتكامل الأدوار.. وتلعب البيروقراطية دوراً كبيراً في تدمير الطموحات وكسر إرادة المستثمر أجنبياً كان أم مواطناً.. فإذا وجدت الأرض بعد عناء طويل فإننا سنجد مشكلة في الطلمبات، وإذا حفرت البئر «المترة» ووفرت المدخلات فإن مشكلة الكهرباء تقف عائقاً كبيراً وأسئلة بلا إجابات.. ووعود تقودك في النهاية إلى الكفر بالزراعة لتغير وجهتك.. إذن فالأمر بحاجة إلى معالجة كل جوانب المسألة الزراعية.. من مدخلات وتقنيات.. وجدية من كل أطراف العملية الإنتاجية وحتى أسواق المحاصيل.. فإذا لم يجد المزارع من يشترى منتجه بقيمة تحقق له الرضاء وسداد الدين فإنه لن يكرر زراعته.. تماماً مثلما حدث مع ثلث الزبير «عليه الرحمة»، فالطاقة موجودة في أعمدة الكهرباء ولكنها غير مدخلة في المشروعات كما يتصور.. والمصارف غير حاضرة وغير جاهزة، اللهم إلا في ولاية الخرطوم. ففي مدينة مثل القولد بالولاية الشمالية، هاجر جل بل كل أبنائها للخارج منذ أن تركها المستعمر مهمشة.. لا مدارس.. لا مستشفيات لا تعليم، لا مجالات للزراعة سوى شريط نيلي بسيط انتهى به الأمر الآن نتيجة للهدام والزحف الصحراوي إلى أرض لا تمكن صاحبها ولا تسعه للسير عليها.. فالنخيل صار أعجازاً خاوية غير منتجة بسبب الحشرة القشرية والقدم.. ومعظمها سقط.. وسمي ذلك الشريط «الملك» أي الملك الحر.. وبقية الشريط عبارة عن أرض ميري، أي حكومي، وغير صالح تقريباً للعمل اليدوي قليل الإنتاجية، مما دفع أصحاب الطموحات الزراعية للخروج صوب التروس العليا، والمهووسين بزراعة النخيل إلى الحفر في الصحراء الرملية وبناء أسوار تحمي الشتول الصغيرة من الرمال الزاحفة، وغرس الشتول الصغيرة في أعماق الرمال لتخرج بعد سنين عدداً إلى الفضاء ثم تنتج بلحاً ورطباً جنياً.. ليصبح هم أهل الشتول جميعاً بلا استثناء جزء ضئيل من المساحات في منطقة غرب القولد في حدود عشرة أفدنة للفرد ليمارس عليها الزراعة حرفة الآباء والأجداد.. فليس هناك بديل للزراعة.. فالبديل للزراعة هي الزراعة، ولذا فإن على حكومة الولاية أن تتخذ خطوة شجاعة وتسمح لأهل القولد بأن يستغلوا «المترات» القائمة الآن لممارسة حرفة الزراعة، حيث تسعى الحكومة بكل ما تملك من إمكانات لحث المزارعين والمستثمرين على الإنتاج.. فلا مخرج لبلادنا ونحن نواجه الحصار الأمريكي الجائر إلا بالإنتاج وتحقيق الكفاية والتصدير للدول الصديقة والشقيقة التي شهدت بجودة المنتجات السودانية من لحوم وخضروات وفواكه. نريد خطوة متقدمة من حكومة الولاية بتخصيص مساحة مقدرة غرب شارع الأسفلت، لتكون امتداداً طبيعياً لحرم مدينة القولد و «المترات» القائمة ووثائقها المتراكمة المجمدة منذ أكثر من عامين بسبب القرار «206» الذي «حرَّز» على جميع أراضي الولاية ودون تفاصيل إضافية.