كأن شيئاً من جنون الكلام، تمشى في لسان الفتى الصغير في تلودي كما الأراقم على الصعيد، وهو يرقب في الأفق البعيد مدينته مثخنة بالجراح... تضمدها مثلما تضمد في التاريخ الأبعد جراح كردفان عقب المهدية، وضع الفتى بندقيته على كتفه ولاح وشم... ربما سافر عبر الزمن من تمبكتو أو فاس أو كانو أو داكار من مجاهل غرب إفريقيا، وحط على ساعد وجبين هذا الغض الإهاب من أبناء الامبراورو، وساعده الثاني على كتف صديقه من أبناء قبائل تلودي، وصديق آخر لهما تدلى حتى وسط شريط من طلقات مدفع رشاش سريع الطلقات تمنطق به وجعله كالنطاق، وهو يستمع لجنون الكلام من سلسلي الفولاني يردد مقطعاً من الدرملي الشهير في تلودي وشرق جنوب كردفان: سارح بالبقر في قرقف الحجر سليمان هاي النمر الضكر مات واقف حيلا... وصدى صوت عتيق للحكّامة حسبة بت أبكير الشهير بلقب «الموس الضبح التور» يرنُّ كما صليل السيوف وصهيل الخيل في فلوات قردود أم ردمي ومفلوع وأم دوال وكلوقي والليري، والفرسان هم الفرسان.. والسيف القاطع أو المدفع الغاضب ورصاصاته كالفارس يحلم بلقاء الفرسان.. وصورة لم تته من قصيد الفيتوري عن سلطان دار مساليت تاج الدين: فوق الأفق الغربي سحاب أحمر لم يمطر والشمس هناك مسجونة تتنزَّى شوقاً منذ سنين والريح تدور كطاحونة حول خيامك يا تاج الدين يا فارس سرج جوادك ليس يلامس ظهر الأرض وحسامك مثل البيرق يخترق الظلمات يا فارس مثل الصقر إذا ما انقض بيتك عالي الشرفات نارك لا تخبو.. لا تسود وجارك موفور العرض يا فارس.. حتى مات! كان السلطان يقود طلائعنا نحو الكفار وكان هنالك بحر الدين وأطل بعينه كالحالم.. ثم تنهد: الحرب الملعونة يا ويل الحرب الملعونة أكلت حتى الشوك المسود لم تبق جداراً لم ينهد ومضى السلطان يقول لنا ولبحر الدين: - هذا زمن الشدة يا أخواني هذا زمن الأحزان سيموت كثير منا وستشهد هذي الوديان حزن لم تشهده من قبل ولا من بعد وارتاح بكلتا كفيه فوق الحربة ورنا في استغراق نحو وجوه الفرسان كان الجو ثقيلاً، مسقوفاً بالرهبة وبحار من عرق تجري فوق الأذقان وسيوفهم المسلولة تأكلها الرغبة والخيل سنابكها تتوقد كالنيران ومضى السلطان يقول لنا ولبحر الدين: - هذا زمن الشدة يا أخوان فسيوف الفرسان المقبوضة بالأيادي تغدو حطباً ما لم نقبضها بالإيمان والسيف القاطع في يد الفارس كالفارس يحلم بلقاء الفرسان «ب» عند سفح جبل أبو نوة الممتد على جنبه الأيمن باسطاً أطرافه يتكئ عليها من الجنوب للشمال، كمخلوق خرافي أساطيري من سحيق الزمن، تستلقي عند سفحه مطمئنة مدينة تلودي، العاصمة التاريخية القديمة لكردفان الكبرى من 1906 حتى 1929م، بمبانيها العريقة وطرازها الفيكتوري العريق ممراتها السحرية الزاهية كأن حوافر الخيل ومدى الأسنة الشهباء وتلاوة الفجر وهدير الماكينات والمحلج والطواحين القديمة وغناء الحكامات، طازج «أخدر» لم يتخثر بعد، ندي كما الطل ذكي كنفح زهرة رطب كتمرة معطونة في العسل.. والأحياء القديمة التي تحكي كل ذرة تراب وقطعة حجر وشظية طوب، تاريخ المدينة وأهلها من قبل وبعد مقتل مأمورها الشهير أبو رفاس على يد فرسان المدينة مواجهاتهم للسلطات الاستعمارية الباطشة، مذ ذاك التاريخ وتلودي لا تغفو إلا وهي تقبض كنانة سهامها ونصل رمحها والأصبع اليقظ دائماً على الزناد، لم تنمْ ولم تترك أحداً ينام ...!! «ت» وتجانس أهلها الذين كونوا وهم من أعراق ودماء مختلفة نتاجاً واحداً هو أهل تلودي الذين لا تفرِّق بينهم السحنات ولا الفوارق القبلية المقيتة.... فقد تكونت المدينة من كل أهل السودان وأصقاعه البعيدة الذين جلبتهم التجارة والوظيفة وزراعة القطن الذي يقف شاهداً على عصرها الذهبي، المحلج القديم في وسط المدينة وسوقها الكبير ومرافقها الحكومية وصدى التاريخ ووجه رموزها خاصة: عبد الفضيل الماظ والبرلماني الشهير قمر حسين وأبو كشوة والأمير إبراهيم جمجم زعيم الكواهلة، والعقيد يعقوب إسماعيل الزين والفنان عباس تلودي والتاجر خمجان محمد علي وإدريس الخير وعمر الخضر وأبوديك ورياض وكوستي طيارة وأبو زمبة وكرشوم وشيخ علي الأمين وناصر تمساح وجورجي ليا والغزالي وجمعة وآل دقاش وناس المقبول القادمين من المتمة وصالح الكوارتي وحليم أمين والشهيد المك جري عبد السلام الذي اغتاله التمرد بعد اختطافه في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. تلودي هي قلعة صمود ومدينة شهداء ظلت تقدّم واجباتها الوطنية منذ عقود بعيدة وخلال معارك التمرد منذ 1985م خاصة معركة القردود الشهيرة، وظلت عصية على هجمات المتمردين والهجومين في يونيو وأكتوبر 2011م والهجمات الأخيرة في نهاية مارس 2012، وهي آخر مدينة سودانية عند حدودنا مع الجنوب من هذه الناحية، وتبعد من الحدود «54» كيلومتراً في اتجاه ولاية الوحدة في الجنوب وحوالي «90» كيلومتراً في اتجاه أعالي النيل. «ث» وقف فتى أمبراررو بوشمه القديم وحوله ومعه فتيان الحوازمة وقبائل تلودي من النوبة طاطا وطمطم وتيرا والمسيرية والشوابنة والبرنو والفلاتة والبرقو وأولاد حميد وكنانة والسلامات وغيرهم، في وسط المدينة، وألوية الدخان لم تنقشع بعد، وهو يحكي ملحمة قتال تصلح تفاصيلها كجدارية سامقة في تاريخ البلاد، عندما تصدت المدينة الباسلة وضواحيها لهجمات صدئات أقبلن من الظلمات، لاحتلال المدينة وأريافها، وكان الفتيان والصبية الذين لم يبلغوا العشرين من العمر، قد نُصِحوا بأن يتركوا القتال للقوات المسلحة ومَن هم أكبر سناً، ضجّت حناجرهم بالرفض وعيونهم بالدمع، وحملوا السلاح وردوا عن مدينتهم كيد المعتدين، وكلامه المجنون «نسور الجو الليلة بتشبع ».... وكان القتلى من فلول الحركة الشعبية بالمئات تناثرت الجيف في كل مكان، وغنى الفتى للجحافل المنتصرة كشمس تخرج من خباء السحب الداكنة. كانت تلودي ساعتئذٍ، تحدد بوصلة الوطن وخطوط الطول والعرض، وتمثل نجمة الشمال، ومجرى نهر البطولة، وصحراء العدم لعشم المتمردين والغزاة، وسدرة منتهى النصر، ومربط فرس الحقيقة التي لم يعرفها سلفا كير والحلو وجنودهما، وخوذة اللحظة التي وقفت تسجل رشقات فداء، وبوابة تفتح مصاريع أبوابها على ساحة الثبات، وصخرة تتحطم فيها قرون الوعل الهائج المندفع من دغل الجنوب المحروق، وهي مزلاج الدخول والخروج تفتح ذراعيها لمن تريد بالحسنى أن يمر وتطحن عظام من تلاطم في جوفه الحقد وثار وطفح. «ج» عندما اقترب جيش الحركة الشعبية متخفياً في قطع من الليل، وسار نحو أم دوال ومفلوع وتلودي، كانت فوهات البنادق عند فتيان المدينة وفرسانها، تتعقبهم مع أستار الليل وخيوط الصبح الشاحب، وانهمر الرصاص من الجميع ودوي المدافع أيقظ في النفوس.. شجاعة لم ترها فلول الأعداء لا من قبل ولا من بعد، كانت لحظات مليئة بكبرياء غريب كما بدا للمهاجمين الذين ظنوا أن تلودي قد وهن عظمها وزاد روعها وخوفها من الضربات المتتالية ، وما دروا أن السيوف لا تنبو إذا احترفت قعقعة المعارك.. كانت بنادق الشباب تثأر، للشهيد حسين رحمة قيدوم، الممرض الإنسان الذي كان الرصاص يحاصره من كل مكان وهو يحمل الجرحى ويطبب الجراح، ويجمع الأشلاء، ودماء المواطنين العزّل في إياديه وثيابه ومشرطه وأدوات التطبيب في يديه، فأسرته قواته الحركة الشعبية الغادرة وذبح كالشاة وألقي به في الفلاة الواسعة والمدينة ترنو إلى جسده الطاهر وروحه التي تلقفتها غمامات نورانية في السماء. كانت البنادق الغضوبة التي تزأر، تثأر لأحمد محمد رفاي الذي استشهد في أم دوال وهو يواجه في صمود قوات الجيش الشعبي الزاحفة بدباباتها ومرتزقتها، وكانت تثأر للشهيد دمدوم محمد أحمد سومي البشير، وللشهيد رمضان من قيادات النوبة التيرا في مفلوع.. كل شيء في تلودي وأم دوال ومفلوع، كان مختلفاً وبراقاً وزاهياً كالبرق... وعقد مضيء من الشهداء كان يشرق في كل مكان، لم ترهبنا حصارات الجيش الشعبي ولا الإذاعات الموجهة من راديو دبنقا ومن كاودا ومن الجنوب.. لكن الشيء الوحيد الذي أبلغته تلودي عن السودان لجيش الحركة الشعبية أنهم مجموعة من الأشقياء ألقى بهم حظهم العاثر أمام جحافل الفرسان مثل فتى أمبراررو الذي غنى في تطريب غريب: « العاداكِ وين يطير.. شقياً صادف نكير»