عجيب أمر ما يجري وأعجب منه أن تدري في المقال السابق ذكرت أن الشارع غائب عن ثقافتنا وعليه فإن اغتيال الشوارع مع سبق الإصرار والتعدي من شيم الشعب السوداني الأصيل. ولو سمحت ظروفك وهي دائماً تسمح أن تدير بصرك في أي شارع فسيرتد إليك وهو حسير وحزين من هول ما يرى. سترى مثلاً وفي الأحياء السكنية كيف أن الوجيه قد شيّد أربعة دكاكين في المساحة التي تخصه قبل أن يبني البيت. وطلى أبواب الدكاكين بلون أخضر. الدكان الأول أجّره لصاحب ورشة لحام، وهذا يستهلك جزءاً كبيراً من كهرباء منزلية ليست مخصصة لذلك، وهذا يفسر انقطاع التيار المتعدد عن الحي، فيلجأ الناس إلى إبلاغ طوارئ الكهرباء التي تتأخر كثيراً في الحضور. الدكان الثاني استأجره صاحب كنتين وهذا احتل جزءاً كبيراً من الشارع ليضع عليه قدرة الفول وتوابعها وجوالين من الفحم وارد الدندر لخدمة مَكَاوي أهل الحي. وهناك شخص مُحسن أقام أمام الدكان مظلة للذين يودون التهام وجبة الفول بموية الجبنة والزيت. أما الدكان الثالث، فقد كان من نصيب صنايعي يصلح الثلاجات والبوتاجازات وقد انتثرت قطع تلك المعدات أمام الدكان مستولية على جزء كبير من الشارع وهي دائماً في حالة ازدياد ولا تنقص أبداً، ونصاب بالاستغراب لأنه لا أحد يأتي ليأخذ ثلاجته أو بوتاجازه. ألا تشعر أنه في كل محل تصليح ثلاجات ترى نفس الثلاجات دون أن تنقص منها واحدة؟. الدكان الرابع، استأجره صاحب بنشر وأول مهمة قام بها أن كوّم عدداً من اللساتك المسهوكة التي تركها أصحابها أو باعوها له بثمن بخس بعد أن غيّر لهم لساتكهم بلساتك جديدة. أما نصف البرميل الفارغ الذي يحتوي على الماء الذي تجرى فيه اختبارات اللساتك ليتبين أسطى البنشر أين أخفى الخرم نفسه وهو يغني: حاول يخفي نفسو وهل يخفى الخرم بوراهو «أي من وراء اللستك» أبداً وطبعاً لا... شفناهو شفناهو.. نصف البرميل هذا تحكّر في الجانب الأيمن من الشارع بعد أن نصبت فوقه مظلة. وبالطبع إن أنسى لا أنسى ماكينة الهواء التي تستجلب الهواء من قرونه لتعبئته داخل الأنابيب المعطوبة بعد إصلاحها. بانوراما الشارع تظهر دكانين أقرنين فُتحا على بعضهما يعلنان قيام مول الكونكورد بلافتة مضيئة عظيمة نصبت أمام المول وبرندة ممتدة إلى الأمام لتغطي ما تحمله دينّات المياه الغازية وبعد المول فسحة عليها «سبيل» وبه أربعة أزيار تنقط مياهاً صافية تستمتع بها الكلاب التي ترقد تحتها وتترك الناس يشربون ماءً ملوثاً بكل ملوث مجهول الهوية. يستمر الشارع في جريانه وقد تغطى تماماً بكوم رملة ذات قاعدة مستديرة تبتلع ثلاثة أرباع الشارع وبصعوبة تتبين محل إسبيرات ولوازم الركشات، وهناك أكثر من عشر ركشات بعضها مفنقل وصبي يبعبص شيئاً في أحشائها بينما ارتفعت عجلتها لتشكو ظلم الإنسان لأخته الركشة. ومن الشارع الجانبي تندلع فوضى تتمثل في عدد كبير من الركشات والأمجادات والحافلات السياحية.. وسيارة النفايات وسيارات الترحيل وشاحنة تحمل كونتينر وعمال يشتغلون في عمل تلتوار للشارع فنثروا البلوكات حتى منتصف الشارع. وفوق كل هذا طلاب وطالبات بعضهم يحمل موبايلات وهم غارقون في ونسة دقاقة وفتيات أرخين عليهن طرحاتهن ويكشفن الشارع بنصف عين خوفاً من لسعة الشمس، ورتل من السيارات بعضها يحاول أن يتجاوز فيتلاقى كالرياح الآسيوية مع سيارات أخرى تود التجاوز وترتفع درجة الحرارة إلى معدلات لا تحتمل بعد أن دخلت العوادم مع العوادم ومع الأوادم في نقاش حامي الوطيس وكل منها ينفث في الجو حمولته من ثاني أكسيد الكربون. مع هذا الجو الخانق تنطلق صفارة إسعاف يحاول سائقها أن يقول للناس إنه في مهمة مستعجلة ولكن سائق درداقة أيضاً في مهمة مستعجلة. إن بانوراما الشارع تدعو للتأمل... آخر الكلام دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشترِ ولا تهدِ هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل وليكنْ شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلمْ في الموبايل وأنت تقود السيارة أو تعبر الشارع وأغلقه في المسجد.