لم يعد الشمل مجتمعاً، والهوى متفقاً، والدار جامعة، هذه هي الحقيقة الجائلة لناظرنا، و «الحاتلة» في ضمائرنا، فإخوتنا الذين صخدتهم الشمس، وصهرتهم الهواجر، هم من اختاروا بمحض إرادتهم الانفصال عوضاً عن الوحدة، والحرب الشعواء التي لا تدركها آصرة بدلاً من السلام، وانساقوا وراء رجل لا تظهر عليه سيماء الصلاح، أو تتوسم فيه مخايل النجابة، رجل لا يعرف إلا الركض في مضمار العمالة التي قدح زنادها ملهمه منذ أمد بعيد، فهو وعترته مازالت مواقفهم المخزية شاخصة للعيان، وآخر هيعاتهم المنكرة هجليج وتلودي، فالحركة الشعبية التي فصمت العرى بعد توثيقها، واليمين بعد توكيدها، استرسلت في جهالتها، وأوغلت في عمايتها، وأمعنت في لدد الخصومة، الأمر الذي قاد لحقيقة رسخت في أذهان هذا الشعب الكريم المضياف، مفادها أن هذه الحركة المشنوءة الذكر، الذميمة الصيت، لا تدركها شفقة، بهذا السودان، فكيف لحركة أعقّ من ضب، وأحقد من جمل، تترك عدوها اللدود دون أن تغرقه في حمأة الهوان، وتسقيه كؤوس الحتوف، كيف لجيش مغبون الحظ في العقل، منقوص النصيب في الظفر، يهدأ له بال إلا إذا أبصر الشمال رياضاً صوّحت بعد بهجة، وشملاً تبدد بعد اجتماع. إن الأمر الذي لا يختلج به خاطر، أو يهجس في ضمير، أن الشمال قد أغضى على القذى، وأقام على الذل، طوال سنوات نيفاشا العجاف، وصبر على من ليس لهم جذوة عقل، أو صريمة رأي، حتى نال من جسمه الشحوب، وشاع في نفسه السأم، ولما محق الله توالي تلك الأيام، وقطع دابرها، ابتلانا الله بوفد صاحب لسان طويل، ورأي قصير، هذا الوفد أبرم اتفاقاً وُقِعَ بالأحرف الأولى مع الحركة التي تكشفت له عن وجه باسر، وناب كاشر، وأولت صنيعه الذي كان أبعد من الثريا، وأنأى من الكواكب، بهجومِ غادر على هجليج التي لولا الجحافل الشهباء، والكتائب الجأواء، لكانت مرتمية الآن في حضن أصحاب السخائم الذين يبغضون الشمال ويجتونه. لا أرى المفاوضات تقود إلى شيء، وأزعم أن حماة الحقائق، وأباة الذل، هم وحدهم الذين يستطيعون أن يقهروا شهوات الحركة ويضعون لجاماً لنزواتها، نعم جيشنا الجرار الذي لا تناله مذمة، أو تلحقه غضاضة هو وحده القادر على أن يكفف عُرام جوبا ويبتر لسانها، أما بقايا النظم، وطرائد الفاقة، وأسرى الخوف، فليس لهم مناص سوى الرحيل. أتمنى لهم إقامة طيبة في ربوع وطنهم الحبيب..