إنّ الأمر الذي لا يعقب إلا ندماً، ولا يورث إلا حسرة، ولا ينتج إلا شراً، صمت أرباب الحكم والتشريع عن مخازي طائفة لجت في غوايتها، وأطنبت في عمايتها، وسعت إلى أن تبطل سطوة القانون، وتقوض ركن الأمن في مدينة شندي العريقة، معقل الجعليين الذين لا يصبرون على خسف، أو يقيمون على مذلة، بعد أن تحكمت تحكم الأرباب في الخرطوم، وتصرفت فيها تصرف السادة. نجد أن هذه الجماعة التي أسرفت في انكار الوطن الواحد، وأصرت في طلب الانقسام والتشظي، قد حطمت حصون آمالنا، وقلصت ظِلّ أمانينا في أن يبقى الوطن الذي يعيش بفؤاد مكلوم، وطرف باكٍ، أسرة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، هذه الفئة التي استمرأت اللجاجة والعنف، أشعرتنا بوطأة خزي عجيب حينما اختارت بوحي خاطرها، وفيض لسانها الفرقة والتشرذم، عوضاً عن الالتئام والوحدة، لقد بقي الشمال الذي هذبه العلم، وصقله التمدن، على فطرته التي فطرها الله عليه، سليم الجوانح، عفيف الجوارح، لا يبسط لسانه بتجريح، أو يمد يده بأذى، فهو رغم اختلاف المنازع والعقائد والأجناس، ظلّ هاجس الوحدة عنده ناضر العود سامق الفرع بهي الطلعة، نعم لقد كان الشمال الذي صبر على تجرع الغصص، وتجلد على عنت الشدائد، حريصاً على أن يلتئم شمله بالجنوب، وينتظم عقده بإنسانه، لأجل هذا دأب أن ينتحل الأعذار لمن يرمقه دوماً بنظرات المقت والكراهية، ويصفه أبداً بالتعالي والعنصرية، وتفادي كل ما يهيج الخصومة، أو يثير الخلاف، ولكن اتضح له بعد لأيٍ أنه كان هائماً في أودية الأحلام، وأنّ الوحدة صريعة مسجية على فراش باقان الدامي. حتى متى نصبر على وطأة هذا الرزء الفادح؟ حتى متى يُسقينا أخوتنا «الأجانب» كؤوس الهوان صافية مترعة؟ بل حتى متى نستفيد من كلال المسير وحسك التجارب؟ إن الشيء الذي يجب أن تعرفه حكومتنا الرشيدة التي تكسب المعدوم، وتعطف على المحروم، وحزبنا الصمد الذي هيأ لقاطني هذا البلد أكناف رحمته، ووسع لهم مهاد رأفته، أن مواطن الشمال الذي أصابته شآبيب البلاء يريد أن يبرد نقمته، ويطفئ لوعته، دون أن ينغمس في منكر، أو يخِفُ في شر، نعم لا يريد هذا الشعب الكادح أن تغشى جوانب أرضه، ولا خوافق سمائه، أدخنة البوار والدمار التي لا يقوم تحتها قائم، أو يتنسم تحتها حي، يريد من صبر على المخمصة والملق والجهل والمرض، أن يعيش وادع النفس هادئ البال آمن السرب. إنّ اخوتنا «الأجانب» الذين رسموا في وجداننا لوحات موشاة بالأسى والحزن العميق، يجب أن يُفضي غلوهم إلى نتيجة، تتعارض فيها الآراء، وتتقارع فيها الحجج، ويتمخض نضالهم اللاغب عن حقيقة مفادها أنهم بقايا نظم وطرائد ذل، أسدى إليهم الشمال الذي لا يضره غمط من غمطه، ولا حجود من جحده، أخلاف نعمته، وأرضعهم أفاويق بره، والأجدى والأجدر بهم أن يطهروا مهجهم من الغل، وأفئدتهم من السخائم، حتى يسري النسيم مُداعباً أغصانهم الملدة، وأوراقهم الغضة، فمازلنا رغم تصرفاتهم الفجَّة التي تجافي جانب العرفان نُكِنُ لهم إخاءً مُحكماً ووداً شفيفاً.