لم يكن غزو واحتلال منطقة هجليج الحيوية من قبل عصابة الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب مجرد مساجلة عسكرية معتادة تقف عند تحرير هذه الرقعة الغالية من أرضنا فحسب، لأن لغة الغدر والخيانة والابتزاز كانت وما تزال السمة البارزة في عقيلة أرباب السودان الجديد في تعاطيهم مع السودان!. رأينا كيف كانت هي عودة توريت على أيام التفاوض الأولى مع الجنوبيين على عهد قرنق، ورأينا كيف هوجمت أبيي واستعيدت لأكثر من مرة ليست آخرها إبان حماقة أدوارد لينو، كما شهدنا عودة الكرمك وقد دنسها عقار بفلتانه ومزايداته، وكيف كانت هبة الجيش والشعب في كل ملحمة، ولكن ما نشهده حالياً منذ استعادة هجليج يوم الجمعة الماضي وما أعقبه من حراك ميداني وتفاعلات سياسية ووحدة في الصف والكلمة، واستمرار للنفرة والتعبئة العامة بهذه الوتيرة المتنامية والتوحد في العقل الجمعي ووجدان الأمة يعجز المعجم السياسي العربي أن يجد له تصنيفاً ومفردة مناسبة فقد تجاوز الثورة والانتفاضة والملحمة والربيع إلى مسمى خاص يشبه خصائص أمتنا ومكنونها وتراص وتضافر صفها عندما يلامس التحدي كبرياءها وكرامتها التي حاول المعتدي جرحها هناك!. بالأمس القريب صلى رئيس الجمهورية في الكرمك بُعيد تحريرها، وها هو اليوم يصلي في هجليج ولهيب نيرانها التي أشعلها العدو لم ينطفئ بعد، وآثار الدمار والخراب لم تبارح مكانها في الشهادة على جريمتهم الوحشية، ولكن البشير كونه أنموذجاً في العسكرية ومدرسة متكاملة، أراد أن يكون قريباً من رجاله ويقف إلى جوار قواته ومناصريه الذين لم يخيِّبوا ظنه يوماً ولم يتأخروا عن مؤازرته والذود عن وطنهم بأنفسهم وأموالهم، هكذا ترى بسالة قائد البلاد ومواقفه وبطولاته، فهي مشهودة لمن أراد أن يقارنه بقادة المحيط العربي والإفريقي، لم تتغير ولم تتبدل منذ أن عرفناه مفجرًا للإنقاذ ويوم أن بايعناه والإحن تحيط بالبلاد من كل اتجاه، وليس غريباً على رأس الدولة وقد تحدى إرادة الجنائية الدولية بكل خيلها وخيلائها وهي التي سعت لتركيع السودان وشل حركة قادته، فكان في اليوم التالي لقرارها في حاضرة شمال دارفور يهزُّ ويصول وسط السنابك والزغاريد وتهديدات الحركات المتمردة، وها هو اليوم ذات البشير يتقدّم الصف الأمامي ويخاطب أبطاله بأن المعركة التي بدأها هؤلاء «الحشرات» لن تنتهي عند هجليج التي استفزت كل مشاعر الأمة ووحّدت صفها وجبهتها بعزيمة وإصرار لاشك أنه موصل إلى أهداف وغايات كم سكتنا عنها لتقديرات وظروف وملابسات! وقد حان وقتها دون تأخير، لقد كانت ملحمة هجليج درساً بليغاً له عدة أوجه أطلقت بموجب يد الجيش لاستعادة كل شبر دنّسه التمرد بكل أطيافه، وهي انتحار وفناء لما يسمى قطاع الشمال الذي يحتمي بزمرة سلفا كير، وهو موت سريري لفلول دارفور التي تتخذ من الجنوب أرضاً لها لضرب استقرار الشمال، وستجد هذه المجاميع أن الخيارات تضيق باتجاهها في أي مفاوضات أمنية جادة في إعادة الأوضاع الى طبيعتها، لابد من أن يصار إلى فك ارتباط كامل لتحالف «الحلو عقار عرمان» مع الحركة الشعبية وتسريح الفرقتين التاسعة والعاشرة على امتداد حدودنا إن أرادوا سلاماً مستداماً على جبهتهم الشمالية وتحرير كامل لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. خيانة الحركة الشعبية لم تقف عند أبواب الدولة الأم بكل ما قدّمت لهم من تعامل لائق وتنازلات كبيرة وتسامح وتقدير لم يكن في مكانه، وقد قوبل بالجحود والنكران والغدر، بل امتدت خيانتهم لشعبهم الذي أحاطت به الفاقة والجوع والمسغبة والمرض والفتك والتشريد، وغدت أموال الجنوب وخيراته في جيوب وأيدي حفنة من المجرمين وسماسرة الحروب وأبناء قادة الجيش الشعبي وأسرهم بالخارج في دعة ونعمة وترف تاركين شعبهم للموت والقتل يحصده، نعم رأينا كيف كان التخريب المتعمّد وغير المسبوق لحقول النفط والممتلكات والمنشآت بهجليج بيد وخبرة أجنبية مستجلبة وتآمر مقصود كي تخنق البلاد، وهي رسالة أرادت تقويض هذه الصناعة وشل حركة الاستثمار الخارجي باتجاهنا، بل إعاقة أي جهود يمكنها معالجة ما وقع من دمار، ولكن إرادة وعزيمة أبناء هذه الأمة قلبت الموازين وصنعت المعجزات في وقت قياسي في إصلاح مجمل الخلل بخيارات وخبرة سودانية محضة ستعزز من سعتنا وقدراتنا لاحتواء مثل هذه الأزمات والتعامل معها مستقبلاً، وقد شهدنا أيضاً كيف تجرّع هؤلاء الهزيمة وأصابتهم الصدمة فعمدوا إلى التجاوز وتصفية الأسرى الذين يعملون في الحقل الصحي بهجليج على أيدي هؤلاء القتلة بعد أن عجزوا على مواجهتنا في ميدان القتال وفروا هائمين على وجوههم مخلفين قتلاهم في العراء تأكلهم الطير والضباع، أو هكذا كان الهروب انسحاباً كما تصوره فضائية الجزيرة. درس هجليج وموجهات هبّة الشعب وغضبته جعلت القيادة تتلمس خطاها ومواقفها وتتخذ من القرارات الجريئة بفرض حالة الطوارئ على امتداد حدودنا الجنوبية، وإغلاقها بالكامل أمام تدفق حركة السلع والخدمات باتجاه الجنوب طالما أرادوا أن يطبقوا على نفس اقتصادنا عبر البترول. هذه الخطوة تجيء في مكانها وتنسجم مع مشروع قانون رد العدوان ومحاسبة حكومة الجنوب الذي تجرى مداولته في البرلمان، وأن أحكام الحدود والمنافذ أمام محاولات التهريب من قبل المخذلين وضعاف النفوس هي حلقات لازمة تناسبها لغة النائب الأول علي عثمان بإعمال سياسة »shoot to kill« من داخل قبة البرلمان في خطاب نوعي له ما بعده! لقد عرف الأستاذ علي عثمان طيلة مسيرته السياسية بكاريزما خاصة تلازمها عفة في اليد واللسان وصبر طويل لا يخلو من إباء وحلم وغضبة بحقها عند الشدائد، عُرِف الرجل بضبطه لانفاعلاته في أحلك الظروف، وبمواقفه الحكيمة وقدرته الكبيرة على التعبير المنضبط وكظم الغيظ وتجاوز الذات وبعده عن المهاترات وساقط القول، وهو الرجل الذي ظل على الدوام يزن أقواله بميزان رجل الدولة المتمرس، وتخرج كلماته ومواقفه بتوقيت يضع الدواء على الداء بقدره وبعده دون تجاوز، لأنه خبر مهنة القضاء الواقف والجالس لا يغيب عنه ميزان العدل والشنآن، ولكن هجليج بكل ما أحاط بها من تحدٍ وطني، حملت هذا الرجل وهو صانع كتاب السلام ومهندسه الذي تحمل عبئه وسجاله برجاءات وأشواق أهل السودان وقيادته، وقد شهد الناس كيف سهر عليه وسكب في سبيله العرق والجهد والأفكار كي يستدام السلام لتقف ويلات الحرب والقتل والخراب، وكم تحمّل الرجل تبعات السلام وإسقاطاته وأصابه الرشاش والتراشق بصفة شخصية، عرفناه وهو يخطو في إحكام ميثاق السلام بمفهوم كلي ومنظومة شاملة للحرب والسلام بكل أبعادها ودلالاتها، ترى بعين بعيدة ما لا يتوافر لعامة الناس، وضيق الحزبيات ومصالح الأشخاص إلى ما يحقق الغايات الكبار، زاد الرجل عن السلام بمفاهيم ورؤى كبيرة ومبادرات مخلصة مثّلت غالب أفكار الوطن وأطروحاته، ولكن ما تبقى في ركائزه قوّضها أهل «الحشرة» الشعبية وقعد بها هؤلاء الأقزام يوم تنكبوا طريقها وخربوا بنيانها بالتشويش وحملات الإرباك السياسي وشطحهم وفلتناهم، فعاد حديثه بنفس وطريقة لم يألفها عنه الناس ليضع المواقف الحاسمة ويقلب الطاولة بقطعيات فاصلة لمرحلة جديدة لها أدواتها وآلياتها: أولها هذا الخطاب الصارم واللغة الصعبة التي خرجت من جوفه وهي من وطأ جمرة التسوية وخبر دهاليزها ويدرك ما عليه المواقف الآن مما استوجب الاستداك والمراجعة الشاملة لمطوبات العلاقة مع الجنوب، ويا له من حديث عندما يخرج من شخص في مكانه ووضعه الدستوري والسياسي، نعم هذه التحولات الكبيرة في المشهد السياسي أملت على السيد النائب الأول بكل خلفية قيادته لملف السلام أن يستصحب إرادة الأمة بمنهج يناسب المرحلة، قاده لأن يغيِّر من طريقته وخطابه ويعيد رسم خارطة السلام والحرب بأفق جديد وإستراتيجية مستحدثة لرسم تأمين الحدود ومراجعة الخارطة العسكرية للبلاد بكل محاورها وأولوياتها، لن يشفع معها مناورة قيادة الحركة الشعبية بقبول ترشيح د.مطرف صديق سفيرًا للسودان لدى دولة الجنوب في هذا التوقيت وقد كان بإمكانهم فعل ذلك منذ اليوم الأول لترشيحه كوننا الدولة الأم والجنوب هو من خرج من رحمها يلزمهم أن يؤثرونا بأن نحمل اللوحة الدبلوماسية رقم «1» ونتولى قيادة عمادة السلك الدبلوماسي بجوبا، ولكنها رسالة المهزوم والمأزوم للخارج في الوقت الخطأ، وما يهمنا الآن هو روح ونفس النائب الأول علي عثمان كونه من صنع السلام وهو من يقود الآن دفة النصرة والتعبئة واستعادة الحق بكامله والمراجعة الشاملة للمسيرة عبر مسؤوليته التاريخية التي لا تنقضي إلا باستعادة كامل تراب الوطن غير منقوص.