شهدت الأسابيع الماضية وتزامنًا مع العد التنازلي لبدء انتخابات الرئاسة الفرنسية التي انطلقت جولتها الأولى في الثاني والعشرين من أبريل الحالي، شهدت صراعًا سياسيًا كان سلاحه كالعادة في كل الدول الأكثر تقدمًا، البرامج الانتخابية التي يسعى المرشح إلى إقناع الناخب بها ويقف من ورائه الحزب الذي لا يتجاوز دوره أن يكون مجرد خلفية لصورة المرشح، حيث إن شخصية المرشح هي التي تحدد وبقدر كبير اتجاهات الناخب سلبًا وإيجابًا. وهي محمدة كبيرة للممارسة السياسية في أدنى مستوياتها، أي رجل الشارع العادي، والذي تهمه كثيرًا شخصية المرشح بأكثر مما يهمه الحائط الحزبي الذي يستند إليه فمهما كانت أطروحات الحزب قوية فإن ضعف شخصية المرشح أو عدم صلاحها للمنصب يؤدي إلى مردود سلبي من الناخب تجاهه.. وقد أثبت هذا الأسلوب أنه دائمًا ما يقدم أشخاصًا أقوياء في طرحهم وبالتالي جديرون بالمنصب مهما كانت اتجاهات بوصلتهم السياسية، خاصة في ظل ثبات الأسس التي تقوم عليها الدولة والتي لا يستطيع كائن من كان التلاعب بها أو القفز إليها مما يبقى عاصمًا للجميع من أي تجاوزات تقود إلى كوارث لا محالة، وفي السنوات الأخيرة اتخذت الدعاية الانتخابية في بعض الدول الغربية منحى جديدًا يعتمد في كثير من حيثياته العمل على التضييق على الجاليات المسلمة المقيمة في تلك الدول.. والتي أصبحت تمثل مجموعات سكانية مؤثرة بعد أن تزايدت أعدادها، كما أن انتشار الدين الإسلامي في أوساط مواطني تلك الدول قد أضحى شيئًا لافتًا للنظر، ففرنسا وحدها بها ما يقارب الستة ملايين مسلم صاروا يشكلون قوة لا يستهان بها وتؤثر على كثير من مجريات الحياة.. وبدءًا بكثير من المعارك الجانبية الصغيرة التي يقحم فيها المسلمون بداعٍ وبدونه، وليس انتهاءً بمحاولة التدخل في صميم الشعائر الدينية لهم، فإنهم يتعرضون لكثير من المضايقات تصل في بعضها إلى محاولة سن القوانين التي تنتقص كثيرًا من حقوقهم كمواطنين وتتعارض كليًا مع دستور الجمهورية.. وليس ببعيد عن الأذهان الزوبعة التي أثيرت حول موضوع النقاب ومن ثم القانون الذي استن والذي أصبح بموجبه يمنع ارتداؤه في الأماكن العامة، بل وأضحى جريمة يعاقب عليها القانون. الآن ومع استعار الحملة الانتخابية والتي بدأت منذ أكثر من ثلاثة أشهر فإن محاولات كسب الناخبين صارت تأخذ منحنيات غريبة نوعًا ما ، فمنذ الحملة الشرسة التي قادها اليمين المتطرف بقيادة «مارين لوبين» مرشحة الرئاسة الحالية، ضد المهاجرين، وبالضرورة المسلمين منهم، وما يتعلق بهم من حقوق كالجنسية وتوابعها، منذ ذلك الحين يتصاعد الخطاب التحريضي ضد المسلمين وهو أمر ليس بجديد على حزب لوبين الذي يتبنى منذ أن كان على دكة رئاسته لوبين الأب، يتبنى خطًا معاديًا للأجانب وهو قد بنى مسيرته السياسية على خطاب «شعبوي» إن جازت التسمية، يعتمد المواطنة بشكل رئيس ويعادي المهاجرين ويرفع بالتالي شعار إفراغ الأرض من الأجانب ومنع الاختلاط الأثني أو العرقي مع المواطنين.. وبهذا استطاع الحزب إدخال مفاهيم جديدة تمكنت لسبب أو لآخر من الخطاب السياسي الفرنسي حتى أنها أصبحت سمة لازمة لكل الأحزاب ربما بوعي وربما بدون وعي في محاولة لمداعبة أشواق المتطرفين الوطنيين الذين أصبح لهم تأثير كبير على الحياة السياسية في فرنسا.. ولا يستثنى من ذلك حتى أحزاب اليسار كالحزب الاشتراكي الذي يتصاعد نجم مرشحه في السباق الرئاسي «فرانسوا هولاند» بعد أن فاز في الجولة الأولى للانتخابات ممهدًا بذلك الطريق للحزب لدخول الأليزية بعد أن أبعد لما يقارب العقدين من الزمان منذ عهد «فرانسوا ميتران» الذي كان آخر رئيس اشتراكي يحكم فرنسا.. ونفس الحديث ينسحب على مرشح الحزب الحاكم المنتهية ولايته نيكولاي ساركوزي، والذي يتبنى أطروحات اليمين المتطرف بمجملها في الهجرة والجنسية والنظرة إلى الإسلام والمسلمين في فرنسا، وإن كان بصورة أكثر اعتدالاً بقليل حيث ظل يحاول عدم الاصطدام المباشر ربما بحكم موقعه كرئيس للدولة.. وهو ما حاولت «لوبين» استغلاله ضده في حملتها الانتخابية حيث سعت إلى تأكيد عدم أهليته لولاية أخرى بما منحه للمسلمين خاصة المهاجرين منهم، من حرية استطاعوا بها التغلغل في المجتمع الفرنسي على حد تعبيرها. وفي نادرة تصلح لأن تكون طرفة انتخابية اتهمت لوبين ساركوزي بأنه قد سمح للمسلمين بأن يفرضوا طريقتهم «الشرعية» في الذبيح على الشعب الفرنسي وبالتالي فرض الثقافة الإسلامية عليهم، وذلك على خلفية السماح لعدد من المسالخ في باريس وضواحيها باعتماد الطريقة الإسلامية في الذبح وتوزيع هذا الذبيح في الأسواق الفرنسية، وهو ما أثار عاصفة من الغضب لدى أحزاب اليمين المتطرف الذي يرى في ذلك «مصادرة لحرية المواطنين الفرنسيين» والذين «يخضعون» لتناول لحوم معدة وفقًا لتعاليم دينية.. وقد أثار هذا الأمر جدلاً واسعًا داخل فرنسا فسارعت وزارة الزراعة إلى نفي أن تكون كل اللحوم الفرنسية مذبوحة على الطريقة الإسلامية وأن ثمانية وتسعين منها هي «جيف» و«ميتة» والبقية أي ما نسبته «2%» فقط هو ذبيح إسلامي لخدمة المسلمين الفرنسيين والجالية المسلمة المقيمة في فرنسا والتي تتمتع بحقوق يكفلها الدستور.. وتدخل كذلك الرئيس ساركوزي نفسه ووزير خارجيته لتأكيد حديث الوزارة المختصة، وأصدرت الرابطة الرئيسة لصناعة اللحوم الفرنسية «انتر بيف» نفيًا لادعاءات لوبين كذلك وأكدت أن خمسة مسالخ فقط في باريس وضواحيها تعمل وفقًا للشريعة الإسلامية.. هذه الزوبعة التي أثارتها المرشحة الرئاسية، التي احتلت المرتبة الثالثة في السباق الرئاسي، لم تشمل الذبيح اليهودي «الكوشير» الذي يعتمد مقاربة مماثلة وله مسالخ متخصصة كذلك، ولكن.. هذه الحملة التي أثارت حفيظة مسلمي فرنسا والتي تكشف عن استقصاد لهم من الأحزاب اليمينية المتطرفة، سبقتها قبل أشهر حملة أخرى ضد سلسلة مطاعم «كويك» للطعام السريع التي حولت ثمانية من مطاعمها البالغة «اثنين وأربعين وثلاثمائة» مطعمًا، لخدمة المسلمين بتقديم اللحوم الحلال فقط في وجباتها لسكان منطقة «روبية» ذات الكثافة المسلمة.. وتم في سياق هذه الحملة رفع دعوى قضائية ضد سلسلة المطاعم على اعتبار «انها تقوم بتمييز ديني في بلد علماني»، وأثار الأمر كذلك جدلاً سياسيًا كبيرًا في حينه، واعتبر مسلمو فرنسا في المقابل منعهم من ممارسة حياتهم وفقًا للتعاليم الإسلامية هو نوع من التمييز ضدهم أيضًا، ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن سوق المنتجات الحلال في فرنسا يشهد ازدهارًا كبيرًا وقدرت عائداتها بما يقارب الستة مليارات يورو للعام الماضي، حيث تحولت اللحوم المذبوحة على الطريقة الإسلامية إلى جزء من العادات الغذائية المتعارف عليها في فرنسا، حتى لغير المسلمين. وعلى كل فإن السباق الرئاسي الذي أثار كل هذه العواصف ضد مسلمي فرنسا الذين يتجهون لأن يكونوا قوة لها ثقل في الحياة الفرنسية عامة، هو في آخر مراحله حيث تنتهي الحملات الانتخابية في الثامنة من مساء الجمعة، ويعلن الأحد مساءً رئيس فرنسا للخمسة أعوام المقبلة.