من وحي مواقف ورؤى في عالم الإبداع الشعري طافت بمخيلتي لقاءات وجلسات سمر وحوار مع كوكبة مرموقة نيرة من الشعراء والأدباء والنقاد في كتابي (زورق.. المشاعر) وفيما يلي سأروي للقراء بأسلوب قصصي لقائي بالشاعر الكبير التجاني يوسف بشير في زورق المشاعر: ٭٭ وقد ارتسم البشر والحبور على وجوه الحاضرين عندما أقبل نحوهم شاعرٌ حبيب الى المهج والقلوب ليتخذ مجلسه بين سُمار الزورق، وهبَّ الجميع يعانقونه في مودة واشتياق.. ونهض أحد محبي الشاعر المبدع شارحاً بعض الظروف التاريخية.. والاجتماعية التي أحاطت بحياة الشاعر وكادت تبدد فنه ومواهبه الإبداعية، ولكنه أدى رسالته بالمثابرة.. وقوة العزيمة والصبر والإيمان، واستطاع برغم قسوة الظروف، أن يرقى سلم المجد الأدبي بما أبدعه من أعمال أدبية وشعرية رائعة ستظل دائماً معلماً مشرقًا من معالم الشعر الوجداني الأصيل والتراث الإنساني الرفيع.. واستطرد المتحدث في حديثه قائلاً: لقد انبثقت شعلة النور تعم أرجاء بلادنا الحبيبة في وقت كان المستعمر الأجنبي البغيض يهيمن على مقاليد الحكم في البلاد، وظلام الجهل والتخلف يخيم على نواصي الفكر والإبداع ويشل حركة التطور والنمو والازدهار، وقد ضرب البؤس أطنابه في المجتمع وقتئذٍ، ولكن ما أصدق المثل القائل بأن ظلام العالم كله لا يستطيع أن يطفئ ضوء شمعة واحدة صغيرة! وقد أخفق الظلام في اخماد ضوء (الإشراقة) التي انبثق نورها في ذلك الحين، وظلت تضيء، وتتقد جذوتها رغم قسوة الظروف وقتامة الحياة في عهد الحكم الاستعماري البغيض في السودان، وكانت نفس الشاعر المبدع التجاني يوسف بشير ومشاعره هي الشعلة الوضاءة التي انتصرت على جحافل الظلام! ٭٭ وما أصدق الشاعر التجاني وهو يصف حياة الأديب وصراعه مع التزامات العيش الكريم، وما يعتمل بين جوانجه من الطموح والآمال والمثل العليا، وذلك في قوله: عبقري من نفحة الخلد مأتاه ومن مهبط الهوى وبقاعه في الينابيع ما يزال غريقاً سابحاً في هدوئه.. واندفاعه مطلق الفكر قد تحرر من غل ومرخي العنان.. في إبداعه لمس المزهر الحزين بكفيه وغنى.. بشجوه.. والتياعه رحمة للأديب أدركه اليأس وهام بين قلاعه ما عسى ينفع البيان وماذا كان يجني الأديب من أوجاعه؟ يا أديباً مضيعاً من بني الدنيا بحسب الأديب محض انتجاعه انت يا رائد القريض وما أنت بسقط الورى ولا من رعاعه انت قيثارة الجديد بك استظهر من في الوجود سر متاعه أدب ملؤه الحياة وشعر مفعم بالسمو.. في أوضاعه ضاع.. ويح الذي يغار على الشعر وويح الأديب يوم ضياعه والشاعر بطبيعة إحساسه المرهف يختلف في نظرته إلى الوجود والكائنات عن غيره من البشر بتكوينه النفسي وخصائصه الذاتية للتفاعل والتمازج مع شتى مظاهر الحياة بأبعادها وزواياها المختلفة، وكذلك رصد وصهر التجارب والنماذج الإنسانية المتعددة في بؤرة الشعور الداخلي للتعبير الفني الشامل عن مضمون التجربة في قالبيها الموضوعي والإبداعي الناجحين وشاعرنا التجاني يوسف بشير حدثنا عن شفافية نفسه، وأعماق ذاته قائلاً: نفسي موزعة المشاعر كلها أبداً عيون في كل رابية تنقب عن سنا الأمل الدفين في النيل تقتحم العباب وتستشيط وتستلين وهناك في ثبج المياه وبين مسرحها الأمين وقفت تتمتم للإله بما تقدس أو تدين تستلهم الأدب القويم وتسمع الوحي الرزين الله أيتها الوديعة أن تشط بك الظنون الفجر ملتهب الجوانب والدجى شرس حرون يتزاحمان اليك في ولعٍ وتسابق القرون! وفي بيت شعر آخر، عبر التجاني يوسف بشير عن حسرة نفسه، برغم اعتزازه بإبداعه الشعري، قائلاً: أنا إن مت فالتمسني في شعري تجدني.. مدثراً برقاعه! وصدق الشاعر المبدع التجاني يوسف بشير= طيب الله ثراه = في قوله الذي ذكرناه آنفاً، لأننا حقاً نحس بروحه السامية، وأنفاسه العبقة بأريج الفن والجمال تطوف في كل بيت من شعره، وتحس بانفعالاته وأخيلته ورؤاه في قصائده حتى تأخذ بمجامع قلوبنا وتجعلنا نهيم مع شاعرنا في أودية الطبيعة... ومباهج الحسن والتصوف. ٭٭ وعن جمال الطبيعة في بلادنا متمثلاً في مدينة الخرطوم التي أسعدته مناظرها البديعة، ونهر النيل الذي ينساب في خيلاء.. وبهاء.. وتؤدة، ويجري مجرى الدماء في العروق، قال الشاعر الكبير التجاني يوسف بشير: مدينة كالزهرة المونقه تنفح بالطيب على قطرها ضفافها السحرية المورقه يخفق قلب النيل في صدرها تحسبها أغنية.. مطرقه نغمها الحسن على نهرها مبهمة.. ألحانها.. مطلقه رجعها الصيدح من طيرها وشمسها الخمرية المشرقه تفرغ كأس الضوء في بدرها! مدينة.. وقعها العازف على رخيم الجرس من مزهره ذوَّب فيها الوامض الخاطف سبائك الفضة من عنصره وجادها المرهم والواكف بالكوثر الفياض من أنهره وهام فيها القمر الرافه يعزف من حين إلى آخر قصيدة ألهمها الإله يراعة الفنان.. والشاعر وقد انطبعت في مخيلة السمار بزورق المشاعر لوحة طبيعية زاهية لمدينة الخرطوم ذات التاريخ المجيد، بضفافها الخضر، ونهر النيل ببهائه ورونقه ينساب على أرضها ويسخو بالعطاء والخير والنماء مثلما تهب الشمس ضوءها وأشعتها للقمر الذي يهبه بدوره الى كوكبنا الأرضي، ويعكسه نوراً يغمر عالمنا بالإشراق والبهاء، وما أبلغ شاعرنا التجاني يوسف بشير عندما وصف تلك الملاحظة العلمية بقوله: وشمسها الخمرية المشرقة تفرغ كأس الضوء في بدرها! ٭٭ وفي صورة شعرية أخرى رسم الشاعر المبدع التجاني يوسف بشير بالكلمات لوحة فنية لزورق المشاعر بلونه الأخضر الزاهي، وما يعتمل بين جوانح سماره من مشاعر الصبابة والأشواق.. وهمهم الشاعر هنيهة ثم شرع ينشد بصوت هادئ عميق: في زورق أخضر مستبشر مبارك الصبوة.. ريان مشى بأيار على زهوه وطوَّق اللج.. بنيسان يعابث الموج على غرة من زاخر.. أهوج.. غضبان وينهب القبلة نطافه يرمي بها في صدر ولهان ينفضها من بلل راضياً عن لهوه المستمرئ الهاني! الله في الزورق من غافل يا نيل.. لم يظفر.. برُبان شراعه الحب.. ومجدافه قلبان.. طفلان.. غريران يسدر في نشوته.. ذاهلاً من مبعد آن.. ومن دان احفظ صبييه.. وباركهما للحب.. يا نيل.. وألحاني! وما إن فرغ الشاعر التجاني يوسف بشير من إنشاد قصيدته حتى أدرك السمار في الزورق أن وراء ذلك الإنشاد العذب الرقيق، أسراراً من التجارب والانفعالات الوجدانية،، ولعلها لا تخلو من ذكريات.. وصبوات تجيش بها خلجات قلبه، وتفصح عنها عواطفه نحو محبوبته (الصبية) الحسناء التي تعيد إلى الأذهان التجربة النفسية المؤلمة التي ألحقت أضراراً مؤسفة بوجدان الشاعر الفرنسي الشهير الفونس دي لامارتين (1790م - 1869م) الذي أمضى أسعد أيام عمره في ألفة ومودة مع رفيقة دربه الصبية الحسناء (الفيرا) على ضفاف بحيرة (بورجيه) بفرنسا.. ولكن سعادتهما لم تدم طويلاً، إذ عاجلتها المنية بعد إصابتها بداء وبيل مما ترك فراقها في أعماق الشاعر (لامارتين) لواعج حسرة وحزن وأسى، وهو يقول في قصيدته (البحيرة): أما تذكرين؟ كيف كنا نجدف صامتين ذات مساء؟ وفجأة ترددت في الشاطئ أصداء نغمات: أهكذا تمر إلى الأبد؟ أهكذا يضيع كل شيء؟!