مثل فراشة عمياء تحترف التآكل والزوال، كانت شجرة الحراز، تبكي وحدها وتجعل من جذعها الضخم الجاف وأوراقها اليابسة مذبوحة على نصب الخريف الغزير الأمطار، وتتأبى غصونها العالية أن ترنو ولو للحظة لخرير الخيران والوديان التي تندلق وتجري بقوة من أعلى جبل مرة متجهة غرباً نحو زالنجي ودهب شرو ووادي أزوم. قصة الحراز والمطر والأسطورة البائسة، لا تعبر عن نفور هذه الشجرة العالية من مر السحاب وهدير الرعود والبرق الخاطف وزخات المطر العنيف... فما بين هذه الشجرة والسحابة الراحلة أعمق بكثير من تفسيرات المخيال الشعبي اللطيف. تنتشر أشجار الحراز في هذه المناطق من دارفور خاصة في زالنجي وما حولها ووادي صالح ومناطق جبل مرة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً من سلسلة هذا الجبل العجيب. وزالنجي الواقعة بين الجبال والوديان والشجر الكثيف، تفك وحدها الطلاسم وتدري ما وراء غوامض الطبيعة.. وتلك الأيام من منتصف السنوات السبعين من القرن الماضي، تزحف كما حجافل الضوء الشمسي الساطع تشرب الظلال وتستسقي الغمامات المطيرة والزمان. «ب» في خريف بهي صاخب تعوي فيه مزاريب السماء وتهدر الرعود، أتى عيد الفطر المبارك في إحدى تلك السنوات، والمدينة الصغيرة الكبيرة الفؤاد تصحو على مطر وتنام على وسادة من خرير، ووادي أريبو يعلو تصخابه من بعيد كغول يدوي صوته فيملأ الآجام والآكام وتردد صداه آفاق الفضاء. الليل يولج في الليل، والنجم يغيب وراء السحاب، والقمر تاه في بيارق الخريف كزهرة ذابلة وعود زوى وجف من اللحاء. عند الصباح .. صباح العيد خرجت المدينة في زينتها.. وصلى الشيخ الشعراني بالناس في الميدان الفسيح بعد أن استعذبت الآذان صوت المؤذن إدريس، وحبست السماء ماءها الذي غيض، وجرت على الأرض الصخرية جداول وخيران صغيرة تتعالى أصواتها كشخير نائمين على ركام التاريخ. وخرج الناس من كل فج، يحتفلون بعيدهم بعد صيام الشهر الفضيل، زاهون في الساحات والبيوت، التهانئ والتبريكات على كل لسان، كشهد في أوداج النحل، رقصات شعبية وأزياء مختلفة وسحنات متعددة، العرب البدو يتحدرون من فرقانهم خارج المدينة، وزعماء الفور وشراتيهم يتزاحمون عند مدخل منزل الديمنقاوي سيسي لتهنئته بالعيد، وأشجار الدبكر والأنجل تتسامق كأنها تعرف ما السماء في زالنجي. «ت» في تلك الناحية الخريفية من أروقة الزمن الناضر، والعيد برونق لحظاته وألق الصباحات الجديدة، كانت هناك ترتيبات يقوم بها كبارنا ونحن صغار نلهث فرحين بالعيد، لرحلتين واحدة لمدينة نيرتتي بجبل مرة والأخرى لوادي أزوم العظيم، شمال غرب زالنجي. تم ترتيب الرحلة الأولى لأزوم في ثالث أيام العيد، تتابعت عربات وجلها من عربات الموظفين والعاملين في مشروع جبل مرة الزراعي، عربات من ماركة اللاندروفر والكومر وأخرى من أجود الصناعة الروسية «فولغا» تشبه الميني بص، شق موكب السيارات المزارع والحدائق والغابات الصغيرة والأودية ذات الأشجار الكثيفة والأرض الصخرية ثم الرملية والطينية الناعمة التي كانت تتغير بين كل الأباطح والمنعرجات، حتى أطل وادي أزوم المهيب، فهو وادٍ عريض يبلغ عرضه في بعض الأحيان أكثر من كليومترين، لا يهدر كثيراً بل يناسب متدفقاً ممتلئاً، لا ضجيج ولا جلبة وهدير. عند أطراف الوادي تناثرت آبار غير عميقة وأكثر من «مشيش» للماء الصافي البارد، وتجمع هنا وهناك آلاف الرعاة والقرويين من المزارعين، وأسراب الطيور تحوم في المكان في منظر بديع، وللطيور في مجموعاتها نظام دقيق وطيران منسق وحركة فيها انتظام وتكامل مدهش فنان. «ث» أنخنا رواحلنا وطفقنا نحن الصغار نجري ونلهو ونلعب، خالطت دماؤنا المناظر الخلابة والطبيعة البكر التي أمام أعيننا، وكان هناك من يصيد الأوز و «جداد الوادي» بالبندقية الخرطوش، وهناك من يطارد الغزلان الشاردة يترصدها كنسر كاسر. الوادي الهادئ الممتليء بمائه يتمهل كمخلوق خرافي ضخم في جريانه، ولون الماء المغبر بزبده يلون صفحة الأفق البعيد، والمروج الخضراء اللامتناهية كأنها بساط من سندس أخضر بلا نهاية. عند ربوة نائية جلس معلم جليل من زملاء والدي وكان شاعراً، يبدو أنه كتب قصيدته عن أزوم، الوادي الذي يربط السودان وتشاد ويصب مع وادي كجا عند نقطة حدودية مهمة بين البلدين في فوربرانغا في أقصي حدودنا الغربية مع تشاد، حيث تتكون بحيرة صغيرة هناك، ويودع أزوم السودان متوغلاً متمهلاً إلى أراضي الدول الجارة. عند هذا المنحنى في الذاكرة والعيد وزالنجي وأزوم، تطل قصيدة عصماء لشاعرنا الكبير عالم عباس، وهي من أشراف قصائده وأروعها، قصيدة وادي أزوم، وفيها بوحه ورقة خلاله وطبعه. «أزوم يا أزوم يا شاطئاً رسا عليه زورق الغيوم تسح ما تسح من دموعها الثقال على الحراز والهشاب والخروب والسيَّال كأنما الندى عليه باقة من النجوم على امتداد ما رأت عيناي من رؤى والغابة العذراء مثل موكب نأى كأن زرقة السماء ثوب عرس طرزت أطرافه رقائق النسيم ٭٭٭ وحومت فراشة تعانق المساء عند حافة المغيب شفافة الجناح مثلما الرمال كل ذرة تكسَّرت من النجوم وصافياً كأنه حداء عندليب ومثل رغوة الحليب تدافع السحاب عالياً يرف جناحيه للسماء، للمدى الرحيب هناك حيث كان يرتمي أزوم وقبل ألف ألف عام حين لم يكن أزوم غير فكرة في الخاطر الإله وحين كانت السماء غير هذه السماء والحياة شيئاً آخر يضيق من تصويره الكلام وحين كان كل شيء مبهماً على الدوام شاء ربنا بسر حرف «كن» وسر لفظ كان أن يوجد الإنسان كامناً في داخل الإنسان فشال من جنان الخلد قطرة ومن دموع الحور فهزها ورجَّ رجتين وصبها من حيث كان يحتمي بأرضه أحب ما يريد من خلق ومن بشر فكان في بلادنا أزوم وتصرخ الرياح مثلما الدوي وتعبر الوادي فيصعق الضعيف والقوي ويرسل الأنين خافتاً فيستجيش في ثباته الهموم وحين قلت همستين للرياح انفلتت من عقالها وركضت تضرج التخوم وسمرة الشط تغط في مداها الخصيب كمثل راهب يكدس الغموض حول سره الرهيب ويستفيض في مخاضه القديم فيجزل العطاء والعطاء مثل رحم الزمان