هذه بعض القضايا التي عشناها وأصبحت جزءاً من ماضٍ لا يريد أحد أن يعود إليه. بالأمس ذكرت لكم أن الجماعة أرادوا أن يثيروا فينا المخاوف بعد احتلال هجليج على اعتبار أننا سنعود لعالم الصفوف: وتلقى الغبش واقفين صفوف... إلخ . ففي زمن الندرة تلك كيف ستحاول أن تستلف جالون بنزين من أحد؟ هل ستقول له: يا أخي من فضلك أديني جالون بنزين ... عربيتي قاطعة.؟- سيكون رده جاهزاً وسيقول لك: ما عندي والله ولا نقطة... وأنا ذاتي قاعد افتش. طبعاً لا يمكن أن يعطيك جالوناً ولو كان عنده ألف جالون ... والسبب هو أنك لا تستخدم منهجاً معيناً لاستلاف أو شحدة جالون بنزين، فإذا أردت أن تشحد أحد الناس جالوناً فيجب أن تستنبط منهجاً واضحاً. وبما أني قد توصلت لهذه الحقيقة قبل فترة ولم أفشل قط يوماً في الحصول على جالون من أحد أصدقائي فإنني تكرُّماً مني سأشرح لكم الخطوط العريضة لهذا المنهج الذي كنا نسير عليه في زمن الندرة علها تفيدكم إذا لا قدر الله أن أختفى البنزين من عندنا. وكل ما أطلبه إذا استطعت أن تتحصل بهذه الطريقة على بنزين أن تتكرم وتغشاني. والطريقة تبدأ بتجاهل أمر البنزين تجاهلاً تاماً وأن تختار مواضيع تتحدث فيها مع صديقك تعرف مسبقاً أنه سيتفق معك حولها اتفاقاً تاماً وإياك أن تثير مواضيع ربما لا يتفق معك فيها فمثلاً يجري الحوار بينك وبينه على النحو التالي : - بالله شفت الحرب في السلفادور دي الناس ماتوا فيها كيف؟ وحتماً سيرد صديقك قائلاً: أي والله... دي حكاية بطالة جداً وتوافقه أنت في الحال مسجلاً واحد إصابة. فعلاً دي حكاية بطالة. ثم تعرج على موضوع آخر: وشايف تفاهة الإسرائيليين وتفاهة رئيسهم كيف قاعد يقتل ناس الضفة الغربية ولبنان؟ أيوه ديل صهاينة ملاعين ما عندهم رحمة. وتستمر أنت: والله حقو كل الناس تقيف مع الفلسطينيين وحقوقهم. ويجيب صديقك: أيوه ... العالم لازم يؤيد كفاح الفلسطينيين. ثم تدلف ناحية الأرجنتين وجزر الفولكلاند، وبالله في داعي الناس يتماوتوا في الفولكلاند؟ مش كان أحسن يحلوا الحكاية دي عن طريق المفاوضات السلمية؟ أيوه تمام ... حقو فعلاً ما يحصل ضرب ولا موت والإنجليز والأرجنتين يقعدوا يتفاوضوا لحدي ما يحلوا القصة دي. وشايف بالله الحرب بين العراق وإيران... مش كان أحسن يقبلوا جهود الوساطة: ولابد أن تكون قد لاحظت أن صديقك بتفق معك في كل المواضيع التي اخترتها أنت بمعرفتك وبعناية تامة ثم ترمي له الموضوع قبل الأخير: بالله... الليلة اليوم دا حار جداً مش كدا؟ أيوه يا سلام... دى سخانة شديدة... وهنا وبعد هذا السيل الدافق من المواصفات تلقي له الموضوع على النحو التالي : وأنت طبعاً حتديني جالون بنزين؟ أيوه طبعاً حأديك جالون وقد كان هذا من المواضيع التي كنا منشغلين بها والموضوع الثاني يعكس تلك الحالة النفسية التي ستتمكن منك حتى بعد أن تظفر ببنزين وهي تسجل شخصية إنسان هلوع. إنسان هلوع أنا إنسان لا أؤمن بأنصاف الحلول ولا يمكن أن تقف بيني وبين طلمبة البنزين آلاف الصفوف... فكم صفوف خضت غمارها وسبرت أغوارها وخرجت منها منتصراً يتقطر البنزين من عربتي أنهاراً ... وكم دافست ودافست «آسف لا أجد كلمة أخرى أبلغ من هذه» ليلاً ونهاراً! وكم ابتسمت في وجه هذا وكشرت فى وجه هذا... وانحشرت بين هذا وذاك وأنا أحلف بالطلاق بأنني كنت في هذا المكان من قبل ثلاثة أيام. وقد دربت عربتي على الكر والفر والازورار والصدام والمراوغة وركبت لها عجلات مثل عجلات سرير المستشفى فيمكن أن تزحف للأمام وللخلف وبالجنب وبالقرب من الجنب وتنحرف بعشرين درجة و«360» درجة وما بينها من درجات وحفظت كل التعابير التي تصلح لكل المواقف مثل : يا أخي الدنيا طارت وباركها يا أخي باركها... ويا ابن العم الناس بالناس والكل برب العالمين والخير راقد ... وما هو أنت حتكب وأنا حأكب زعلان ليه؟ ... ولو احتاج الأمر لتعابير أشد قوة ووضوحاً من هذه فهي أيضاً موجودة مثل: تعال أنت طلعني من هنا ... وأنا بايت في الحتة دي خلي أتخن واحد يجي يتكلم معاي . وعلى العموم فأنا مجهز بكل ما يتطلبه الموقف... وعندما أصل إلى الطلمبة فإني أحلف بكل ما أملك وبكل مالا أملك بأن لي مريضاً في الدروشاب وأن والدة هذا المريض في أم بدة وأن الدكتور الذي سيعالجه في مستشفى سوبا الجامعي وأن الاستبالية التي سيرقد فيها في مدينة الثورة وعليه فأنا احتاج لتنك كامل. ولن يجدي معي الكلام ولا أخذ كلمة «لا» على أساس أنها نهائية.. وهكذا أدمنت هذه اللعبة وأصبحت أحرص على البنزين حرصي على الماء والهواء. ولكن لا تظنوا أن الأمور تسير دائماً على ما أرجوه وأتمناه ... فالمعضلة هي أصدقائي.... وتلك المجموعة من الكسالى الذين أما وقفوا متفرجين على الصف أو جاءوا متأخرين ففاتهم شرف نيل البنزين ولهذا فهم يلجأون لي . اليوم حصلت على حصتي من البنزين وحتماً سأعود إلى المنزل وسأجد أحدهم في انتظاري ليأخذ مني جالوناً ... لا .... لن أعود إلى المنزل ... سأذهب إلى مكان آخر وقررت أن أرجع إلى المكتب بالرغم من أن ساعات العمل قد انتهت ولكن لو عدت بالطريق نفسه ربما قابلت أحدهم ولهذا سأختار الطريق الأطول وشققت طريقاً لم يعرفه أحد ... فهو يمر بالقماير ثم أبوروف ويستمر حتى يلتقي بشارع الموردة ويأخذ طريق الغابة والمنطقة الصناعية ويمر بميدان سباق الخيل ثم يلتقي بشارع مدني ويعرج على مدينة الرياض فالبراري ثم يعبر كبري بري بكوبر ويخترق المنطقة الصناعية ببحري ثم يعود بشارع السكة الحديد فيعبر كبري النيل الأزرق وبهذا أستطيع أن أدلف إلى شارع النيل حيث توجد معظم المكاتب الحكومية فأستطيع أن أخفي عربتي في مكان لا يراه أحد من أصدقائي الكسالى. وسارت العربة وقطعت كل هذه المسافات وذلك لأصل لمكان بالقرب من شاطئ النيل الأزرق أربط فيه عربتي ولكن لسوء حظي فقد لمحت عربة أحد أصدقائي تقف مهجورة.. لابد أنها تشكو من قلة ذات البنزين ولابد أن صديقي سيكون بالقرب منها ولابد أنه سيأخذ مني جالوناً ولهذا استمرت العربة في سيرها حتى وصلت شارع الموردة وانحرفت ناحية اليمين واتخذت طريقاً يؤدي إلى أبو روف... فالقماير ومن هناك دلفت إلى الشارع المؤدي إلى وادي سيدنا وكل مرة وأنا أنظر في المرآة الجانبية حتى أتأكد من خلو الشارع من شخص يعرفني فيأخذ مني جالوناً... وأنا لا أعرف أي شخص في مدينة الثورة فلابد أن تكون هذه المنطقة مناسبة جداً للتخفي ولهذا دلفت ناحية الشمال واتخذت العربة طريقاً إلى الحارات التي تقع بعد الرقم «20»... سأقضي وقتاً هنا وعندما يهبط الظلام سأقود عربتي إلى منزلي بعد أن يكون جميع أصدقائي قد ناموا ويئسوا من العثور على حضرتنا... ومكثت وقتاً لا أعرف مقداره فقد أخذ مني التعب وانشب مخالبه في عضلات جسمي فأسلمت نفسي لغفوة أفقت منها على ظلام دامس يغطي المنطقة إذ أن الخدمات الكهربائية لم تصل لتلك الأنحاء. أدرت محرك السيارة... كان الموتور يهدر بصوت مشروخ.... ولا يحرك الماكينة... وحاولت مرة ومرات ومرات... يا للهول.... ما الذي أصاب هذه العربة... لقد كانت تسير كأنما يقودها شيطان ولكنها الآن أصبحت حديدة ميتة... فما دهاها يا للمصيبة؟!! تباً لهذا الحديد!!... وتنبهت إلى إن مؤشر الوقود يشير إلى ما تحت الخط الأحمر... لقد نفد الوقود ... يا للمصيبة... تباً لهذا الحديد!!... وتنبهت إلى أن مؤشر الوقود يشير إلى ما تحت الخط الأحمر.... لقد نفذ الوقود... يا لها من معضلة ففي غمرة فراري لم انتبه إلى إن الوقود قد نفد... وقد قضيت ليلتي تلك ساهراً خائفاً مرتجفاً.... مذعوراً... أتخيل كل ثانية أن يثب علي أحد الرباطين فيضيف لمأساتي بعدًا جديداً ... وفي الصباح ذهبت برجلي مسافة تزيد على الأربعة كيلومترات حتى وصلت شارع الأسفلت... كل ما أريده أن أحصل على عربة تأخذني إلى أحد أصدقائي فأحصل منه على جالون واحد فقط يحل مشكلتي هذه ... فالناس بالناس.