لوحة معبِّرة بأكثر مما تستطيع آلاف الكلمات أن تعبِّر، وبأكثر مما تستطيع آلاف الحكايات التي يمكن أن تُروى شفاهة عن يوميات الثورات العربية التي انتظمت العديد من العواصم العربية في لحظات تجلي للوعي، جعل كل شيء يخضع بتلقائية غريبة لمنطق ظل مغيبًا لعقود.. منطق يجعل من معاني الحياة قيمة تتجاوز مجرد الغرق في تفاصيل اليوم واللهاث اللا متناهي، منطق يجعل من اللا منطقي أن تدور عجلة الجسد الإنساني في أزقة الفعل الحياتي والروح منه في حالة موت. مما لا شك فيه هو أنه عندما سعى مصور (النيويورك تايمز) لالتقاط بعض الصور عن الثورة اليمنية التي لفت أزقة وحواري اليمن إبان عنفوانها في أكتوبر من العام الماضي، مما لا شك فيه هو أنه لم يكن يدرك تمامًا القيمة الإنسانية التي يمكن أن تحملها إحدى هذه الصور والتي فاقت في تلقائيتها وبساطتها كل حدود الممكن ولكنها اختصرت كل المعاني الإنسانية دفعة واحدة.. (صامويل آراندا) مصور اسباني نزل أرض سبأ ليوثق يوميات الثورة اليمنية إبان الغليان، وصورت (كاميرته) فيما صورت، لقطة لامرأة يمنية وهي تحتضن إلى صدرها في مشهد بالغ التأثير ابنها الذي يتراءى للناظر إليه أنه ميت لا محالة، وأن الأم إنما تحتضن جسدًا فارقته الحياة. وبرغم أن الصورة خالية من أي عنصر آخر سوى الأم وابنها، وبرغم أنها تبرز فقط ثلاثة ألوان هي «الأسود الذي ترتديه الأم، والأبيض الذي يغطي كفتيها كقفازات، ثم الوردي الخفيف المشوب بالأبيض لجسد الشاب الذي ينازع»، برغم ذلك وبرغم أن الأم في الصورة يكاد لا يُرى منها شيء، فهي تتشح بالنقاب الذي يغطي حتى عينيها، مما لا يمكن معه رؤية تعابير وجهها، إلا أن الصورة كثيفة الحضور غنية التفاصيل مترعة بالمشاعر، فهيأة الأم وهي تحتضن الجسد النحيل العاري لابنها في لحظة تجسد كل الهشاشة والضعف البشري تكاد تنطق بكل الألم الذي يمكن أن يعتصر أمًا وهي ترى ابنها أمامها مسجى بل حراك، وقد تجرد من حطام الدنيا حتى من قطعة قماش تستر جسده المتداعي.. بل وتدفقت رغمًا عن النقاب الأسود مشاعر أمومة جياشة يستطيع الرائي أن يتلمس دفئها، وأن يستشعر كل معاني اللهفة والخوف والقلق من النظرة الأولى. التقط آراندا الصورة من أمام مسجد كان شباب الثورة قد اتخذوه كمستشفى ميداني خلال التظاهرات.. واستطاع توثيق هذه اللحظة الدفاقة بالمشاعر، حين عثرت فاطمة صاحبة الصورة على ابنها زايد ذو التسعة عشر ربيعًا، بين مجموعة من المصابين وكان وقتها فاقدًا الوعي جرَّاء تنشق الغاز المسيل للدموع وذراعه مكسورة.. تقول فاطمة في لقاء لاحقًا إنها لم تكن تدري مع أية مجموعة ستجد ابنها، مع الشهداء الذين صعدوا في أحداث ذلك اليوم أم مع الجرحى والمصابين، لذلك تقول لم تتمالك نفسها حين وجدته مع زملائه فاقدًا الوعي، لكنه على قيد الحياة لم تتمالك إلا أن تضمّه إليها بكل لهفة الأم وبكل الخوف الذي تجسّد لها حين شرعت تبحث عنه بين الضحايا الذين كان أكثرهم يمثلون جيل زايد، الجيل الذي كان وقودًا للثورة منذ انطلاق شرارتها الأولى.. لقد حملت صورة زايد الذي تعافى بعد ذلك ليواصل ثورته حملت صورته وأمه الثورة اليمنية إلى العالم وجعلت من صنعاء مكانًا حاضرًا غائبًا في ذاكرة عالم لا يدري شيئًا عن معاناة أجيال في منطقة هي موسومة فقط بأنها مهد لشرور تلاحق الآخر بأسوأ أعماله في الصحو والمنام، حملت الصورة في صمتها المبين طاقات مشاعر جيَّاشة عكست كل ما يمكن أن يُقال بلا كلمة واحدة.. وهكذا استطاعت ببساطتها وعنفوانها وبتعبيراتها المجردة، استطاعت أن تخطف الأبصار، وأن تنتزع جائزة صورة الصحافة العالمية world press photo للعام الحالي في دورتها الخامسة والخمسين، وهي أكبر جائزة في التصوير الصحفي، حيث احتلت المركز الأول من بين تسعة عشر صورة منتقاة من آلاف الصور المرشحة.. واعتبر محكِّمو الجائزة أن الصورة تتحدَّث عن (الربيع العربي) كله وتختزل كل ما يمكن أن يُقال عنه، وأنها (تبرز لحظة مثيرة للمشاعر، مشحونة بالانفعالات.. إنها العواقب الإنسانية لحدث جلل.. حدث ما زال جاريًا).. واعتبرت لجنة الجائزة أن الصورة أصبحت صورة حيَّة لأناس عاديين سطروا بشجاعتهم فصلاً مهمًا في التاريخ. الاحتفاء العالمي بصورة (الرحمة اليمنية) كما سمَّاها كثيرٌ من النقاد تشبيهًا ب (رحمة) مايكل أنجلو، يعكس فعلاً إيجابيًا تجاه وجع عربي ما زال جرحه يضجّ بالألم، ويضفي لمحة إنسانية على عالم غابت عنه الرؤية الموضوعية لكل ما هو عربي، وشرق أوسطي بالضرورة.. فالنقاب الذي «اتشحت» به بطلة الصورة والذي يثير الكثير عند العالم الغربي أصبح رمزًا لأمومة حانية مترعة بالمشاعر، وأصبحت المرأة تحته صاحبة قضية عادلة بعد أن كانت مثيرة للجدل، بل إن تجرّد الصورة من أي عناصر تضفي عليها رائحة الزمان والمكان هو شيء يشيء بأن الصورة تصلح لتعبِّر عن المرأة في المنطقة ككل.. إنه تغير نوعي في طريقة رؤية الآخر يستصحب معاني جديدة جديرة بالتروي لرؤيتها عن قرب أكثر.