دبابيس ودالشريف    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    شرطة دبي تضبط حافلة ركاب محملة بأسطوانات غاز!    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صورة المفكر محمد عابد الجابري في طفولته وشبابه. “حفريات في الذاكرة” لمحمد عابد الجابري..بقلم : د, عبد المالك أشهبون
نشر في حريات يوم 02 - 02 - 2012

إن من أساسيات الكتابة السيرذاتية عامة، وأدب المذكرات خاصة، أن تغدو الذات، ليست من يفعل الفعل أو يقع عليه الفعل فحسب، بل هي أيضاً من ينقله إلى الآخر بصيغته الإبداعية. وبهذا المعنى، ينتقل البحث في هذا المجال المخصوص من علاقة النص بالذات الكاتبة، إلى علاقته بالمعطيات الخارجية المسرودة في تفاعلها مع رؤية الكاتب الفلسفية. وعليه، فإن المذكرات لا تَسْرُد (مثلاً) تاريخاً شخصياً بالضرورة، بل يمتد السرد إلى تواريخ شخصيات أخرى يستدعيها المقام استدعاء، ويطلبها سياق المعنى طلباً، مثلما أضحى الموضوع المركزي لهذه المذكرات مشدوداً إلى الكيفية التي يستطيع بها هذا النص تمثيل الذات في مختلف مكوناتها: العاطفية والنفسية والثقافية. من هنا يمكن القول: إن الذاكرة لم تعد بمثابة حضن للذكريات ووعاء لها فحسب، بل عنصراً فعالاً ودينامياً في لملمة هذه المذكرات وتنضيدها وبالتالي تقديمها إلى المتلقي، وفق رؤية متناغمة مع فلسفة الكاتب، ومنسجمة، كذلك، مع رؤيته الخاصة للتطور المجتمعي عامة.
فقارئ حفريات الجابري، سينهمك لا محالة في قراءتها من منظورين متقابلين ومتداخلين: منظور أول يلح عليه تتبع مسارات الذات الكاتبة التي تحكي عن سنوات الصبا واليفاعة…، ومنظور ثان يلزمه بضرورة استحضار صورة الجابري المفكر، والفيلسوف في سياق مسار هذه القراءة…فالقراءة، آنذاك، ستتراوح بين هذين الحدين الحاسمين، الموجِّهين لأفق انتظار القارئ الذي عليه أن يتعرف، أكثر وأعمق، على المفكر والفيلسوف المرموق (الأستاذ محمد عابد الجابري) من خلال صورته في طفولته وشبابه (الطفل الذي كانه). وبالعودة إلى حفريات الجابري، سنرى أن للرجل باع طويل في مجالات متعددة: معرفية وسياسية وثقافية؛ فهو البدوي والمديني، المعلم والمحاضر، الفيلسوف والمبدع، الصحفي والأكاديمي، المناضل والعالم،…الخ. فليس بمقدور قارئ هذه المذكرات عدم استحضارالوضع الاعتباري للكاتب بأي حال من الأحوال. فلا غرو إننا لا نستطيع قراءة مذكرات الجابري بعيداً عن تمثل صورته الرمزية كمفكر ومناضل، تحول في ما بعد إلى واحدة من أيقونات القرن العشرين في مجال الفكر والفلسفة في عالمنا العربي، إذ إن معرفتنا المسبقة بمسار شخصية الجابري الاستثنائية، تحثنا مسبقاً على النظر إلى هذه الحفريات بتقدير خاص، وتدفعنا إلى ربط كل كلمة، وكل إشارة، وكل تفصيل فيها بالصورة التي سيكون عليها الجابري لاحقاً.
ومحمد عابد الجابري نفسه يستحضر هذه الرهانات التي تطرحها: “الحفريات…” على عاتق القارئ؛ لأنه يشعر وهو يتهيأ لمواصلة تتبع معارج مساره الشخصي أيام طفولته، والتعريف بالبيئة التي نشأ فيها وقضى طفولته بين مراتعها ودروبها بالحاجة إلى القول: إن من الذكريات ما تنتمي حوادثها إلى الماضي، وإن منها ما ينتمي إلى المستقبل، لأن الفائدة منها لا بحدوثها الزمني بل بآثارها ونتائجها. فهذه المذكرات، منظور الجابري، تتعلق بأحداث كان لها بدون شك دور هام في تكوين شخصيته، سواء على صعيد الوعي أو على صعيد اللاوعي، «ولكنها في نظره الآن على الأقل لم يكن لها أي “فضل” عليه، لا بوصفه مجرد كائن بشري، بل بوصفه هذا الشخص الذي يكتب الآن، والذي تخلع عليه الصحافة أحياناً ذلك اللقب الذي يدخله في زمرة”المفكرين”…»[1].
وعلى هذا الأساس المكين، نعتبر من جهتنا أن هذه المذكرات تدين، في أجزاء كبيرة منها، لوعي مبكر بصورة الفنان في طفولته، حيث تتحول هذه المذكرات إلى تجربة ذاتية وموضوعية متلاحمة الأطراف، ومتداخلة في أبعادها، بطريقة هارمونية مشوقة؛ لأن الرهان الذي يطرح في نظير هذه الحالات هو كيفية محافظة الكاتب لكل طرف على حدة بالصورة التي كان عليها (الطفل باعتباره طفلاً والمفكر باعتباره كذلك). فلا يكتب الكاتب عن الطفل، من خلال ممارسة رقابة عمياء على كل ما يمكن أن يلحق الأذى بالشخصية الرمزية لمصير ذلك الطفل، الذي غدا مع مر الزمن رجل علم وفكر بامتياز، ولم يعمد في الوقت ذاته على اختلاق وقائع وأحداث من صنع خياله، من أجل الرفع من وتيرة حرارة ما هو مكتوب، أو حتى يضمن له أوسع كتلة من القراء، كما يحلو لبعض كتاب اليوميات والسير الذاتية أن ينتهجوه سبيلاً لاجتلاب أكبر عدد ممكن من القراء.
أولاً : جماليات تشكيل خطاب العتبات
إن حاجة الكاتب إلى كتابة مذكراته هي بقدر حاجته إلى التحلي بكبرياء أمام هذا الفن الإبداعي الجليل الذي يدخل في نطاق الأدب الشخصي. فإذا كانت مرحلة الشباب توحي بالأفكار الوردية العابرة والمفارقة للواقع أحيانا؛ لأنها أقرب إلى التهور منها إلى الاتزان والنضج، فإن غالبية الكتاب الجديرون بهذه التسمية يؤجلون كتابة سيرهم الشخصية إلى مرحلة ما بعد الشباب. آنذاك تتكامل التفاصيل العديدة، وتنضج الكثير من الأفكار، وتسقط جملة من البديهيات التي ترسخت في أزمنة اليفاعة مع أحلام الشباب. يستطيع أثناءها الكاتب، وبكثير من الاطمئنان، الخوض في لملمة شظايا تلك الذكريات المتناثرة من منطلقات عامة، ملؤها الحكمة واستخلاص الدروس والعبر مما مضى وانقضى، وذلك وفق نموذج إبداعي منتخب يتراوح ما بين: سيرة ذاتية، مذكرات، يوميات…
فأي صدى يضطلع به اسم المؤلف في توجيه أفق القراءة نحو استخلاص هذه الدروس أو تلك العبر؟
وأي دور يلعبه اسم المؤلف في تكوين القارئ فكرة ما عن طبيعة النص المقروء؟
وأي وظيفة يكرسها هذا الاسم المدني (المشهور) في نوعية إدراك هذا القارئ للقارة المعرفية التي سيحط الرحال في فضاءاتها، ومن ثم توجيه أفق انتظاره هذه الوجهة أو تلك في اختياره لكيفية القراءة؟
يتعلق الأمر، في هذا السياق التساؤلي السابق، بسيرة فيلسوف ومفكر مغربي مشهور، يشرئب لأول مرة على كتابة إبداعية تنزاح عما عرف به واشتهر: إنه المفكر والفيلسوف محمد عابد الجابري الذي أصدر قبل سنوات جزءا من مذكراته الشيقة والممتعة، والموسومة بعنوان متميز هو: “حفريات من الذاكرة”.
ولقد جرت العادة بين عموم القراء والدارسين على أن يلحق اسم أحمد عابد الجابري بمجال محدد: ألا وهو مجال البحث العلمي الأكاديمي الصرف. وهذا التنسيب المتعارف عليه قد يحمل في طياته إقصاء بطريقة غير مباشرة للجابري من دائرة الإبداع؛ لأن هذا التوصيف يتغافل عن الصفة الوجودية التي أدخلت الجابري عالم الكتابة من بابه الفسيح عن سبق إصرار وترصد، ألا وهي صفة “الجابري المبدع” قبل أن يشق هذا الأخير مساره الشخصي، من خلال تخصصه في هذا المجال المعرفي أو ذاك. في هذا الإطار الواسع والخصيب، يمكن قراءة عمله الاستثنائي هذا، حيث يجبرنا الجابري على العودة إلى أصل الرجل: ألا وهو الجابري المبدع، ذو الخيال الفسيح، سواء تعلق الأمر بمجال العلوم الإنسانية أو بفنون كتابية أخرى (مذكرات، خواطر، مواقف أدبية…).
وبكتابته لمذكراته، يعيدنا الجابري إلى دائرة الكتابة من منظورها الواسع. الكتابة باعتبارها عشقاً وجودياً للكلمة والحرف، هذا العشق الوجودي لدى الجابري نما وترعرع وأينع في شتى المجالات إلى أن أصبح دوحة كبيرة من المصنفات في عالم المعرفة عموما.
1 العنوان في تعدد إيحاءاته وإحالاته
يتقاطع مدلول العنوان الرئيسي: (“حفريات في الذاكرة”) مع طبيعة التعيين الجنسي للكتاب، حيث يهتدي الجابري إلى مفهوم جديد لم نعهده من قبل في تاريخ التعييات الجنسية في أدبنا العربي، ألا وهو مفهوم: “الحفريات…”. وفي هذا السياق، يبرر محمد عابد الجابري توصيف عمله الوحيد هذا بهذا الاصطلاح، بكون وقائع الحياة الشخصية، وكذا الاجتماعية العامة، تتحول مع مرور الزمن وتتدافع، ويغطي بعضها بعضاً، يخنقه أو يمحوه ويلغيه، فإن ما يبقى منها، صامداً هو، حسب ما انتهى إليه الجابري، «أشبه ما يكون بالقطع الأثرية التي تمكنت، بهذه الدرجة أو تلك، من مقاومة عوامل التحلل والاندثار، وسط ما تراكم عليها وحولها من مواد لا أثرية ولا تاريخية، فغدت تفرض نفسها على الباحث الأركيولوجي، الباحث المنقب عن الآثار، كمعالم وشهادات ذات معنى، لا أقول في ذاتها»[2].
أما العنوان الفرعي: “من بعيد”، فجاء معززاً لمدلول “الحفريات” التي لها علاقة بكل ما هو ضارب في العتاقة والقدم. يقول الجابري في هذا المضمار: «عندما كنت أكتب “حفريات في الذاكرة” كانت تنتابني مثل هذه الحالة، أعني الشعور ب”القدم” وهو ما عبرت عنه بعبارة “من بعيد”»[3]. فقد كان لدى الكاتب إحساس ضاغط بأنه ينتمي إلى جيل كان يمثل درجة الصفر على مستوى الحداثة، ثم قفز إلى المرحلة الحضارية الراهنة، مرحل “ما بعد الحداثة”. في حين كانت الرسالة الثاوية خلف هذا التصور، هي رسالة إلى شباب اليوم أو لنقل معظمهم، الذين يعانون من اليأس والإحباط وانسداد الآفاق ومفادها: أن الإمكانات المتاحة أمامهم اليوم أحسن بكثير من تلك التي كانت متاحة للجيل الذي كان الجابري ينتمي إليه ليستثمروها ويستغلوها أحسن استغلال في العمل الجاد والمنتج.
فمنذ الوهلة الأولى، يستقر الكاتب في حقل دلالي مغاير لما كان مألوفاً في التعيينات الجنسية السائدة في الأدب العربي، إنه مجال «الحفريات» الذي يندرج في علم الآثار من جهة، ويتناص مع عنوان كتاب فلسفي وفكري دمغ الفلاسفة المغاربة في نهاية القرن الماضي ألا وهو كتاب ميشيل فوكو الشهير: “حفريات المعرفة” من جهة أخرى
فما هو الفضاء الجغرافي الذي سيخضع لهذه «الحفريات» من أجل إعادة استكشاف تلك القطع الأثرية النفيسة التي لا تقدر بثمن؟
وما هي طبيعة تلك التحف التي سيقدمها معرض (كتاب) الجابري لقرائه كيما يحققوا متعة المؤانسة والإمتاع في ما هو معروض؟
لقد كان لمنطقة فجيج عبر التاريخ السير ذاتي للجابري أكثر من دلالة. فالمكان هنا ليس مجرد فضاء يحتوي الشخصيات والأحداث ويمسك بتلابيب الزمن، بل هو عنده عمق جغرافي وتاريخي وجمالي أيضاً، كما أنه هاجس المذكرات ونواتها الدلالية والحكائية؛ فهو تبعا لذلك، يُعَدُّ الشخصية الرمزية، المركزية النازلة بثقلها على جسد الحفريات، بحكم تنوع تضاريسه، وغنى ترابه ورماله، وتعدد أطياف سمائه، وتنوع طابعه المعماري المتميز، وتعدد أحوال ساكنته المرئية وغير المرئية، وحيواناته: الأليفة منها والشرسة. كل هذا التعدد والتنوع والزخم في هذا المحيط الطبيعي والبشري والروحي الزاخر كان له الأثر الكبير في نمو وترعرع الجابري (صبيا ويافعا وشابا…).
في وسط الفضاء الجنوبي اللامحدودة بمنطقة فجيج، ينشغل الجابري، في البداية، باستكشاف ركن قصي يشبه واحة خضراء، مزدانة وسط مفازة لا نهاية لها، ثم يقوم، بعد ذلك، برفع ذلك الركن المستكشف، بانفعال طفولي أخَّاذٍ، إلى مرتبة التجربة التي أمكن للفرد أن يعيشها، ثم تحويل هذه التجربة إلى مقام التجربة الأدبية التي لها مقوماتها وجمالياتها الخاصة. فمن أعماق الزمن البعيد، وفي حمأة ازدحام أطيافه وامتداداته، وتداخل صوره، تعرض “حفريات” الجابري أهم منعطفات العالم الذاتي والموضوعي، باعتبارها قطعا أثرية يتم اسرجاعها من ذاكرة النسيان، من حوض الزمن الآخر الذي ولى وانقضى، ليتبلور في فضاء الكتابة من خلال هذه الحفريات.
من هنا كانت مناسبة الكتابة الملحة لهذه المذكرات هي الخوف من فقد عناصر مضيئة من ذاكرة الرجل الزاخرة، كما كان الهدف، كذلك، مقاومة مظاهر النسيان وثقافة التعرية والمحو لكل ما هو متألق ومشرق في أزمنتنا البعيدة، وبالتالي تسجيل الشهادة الكبرى في حق ما مضى، من أجل استشراف ما سيأتي. فما قام به الجابري هو عملية إرجاع أو استرداد قطع أثرية من ذاكرة الزمن البعيد: قطع سير ذاتية، مدموغة بختم عابد الجابري الخاص، باعتباره الفيلسوف والمفكر والسياسي والأكاديمي، الذي تربع على عرش إمبراطورية علمية مترامية الأطراف…
ومن أجل تحقق فعالية هذا النوع من الحفريات في طبقات الذاكرة، كان على الجابري أن يتعامل مع مجموع العناصر والمكونات والمواد الخام المستكشفة على قدم المساواة، من هنا تحضر كل المكونات المرتبطة بتجربة الذات (كل ما هو اجتماعي وسياسي وديني وعاطفي…)، بل كان عليه أن يستثمر مجموع هذه المكونات دون مفاضلة بينها.
أما تجليات هذه الحفريات، فهي متعددة ومتنوعة؛ فهي حفريات في طبقات الأنساب، حيث يعود بنا الجابري إلى دلالات الاسم الشخصي: «إنه يتذكر هذا جيداً، ويتذكر كذلك وبنفس القوة والوضوح، قصة تسميته “محمداً” كما قصتها عليه جدته لأبيه في مرحلة متقدمة من طفولته، وعندما أصبح ملازماً لها في بيت أهله من أبيه، بعد زواج أمه بمدة قصيرة. لقد أخبرته غير ما مرة أن أخواله كانوا يريدون تسميته ب: “عبد الجبار” تيمناً بجدهم سيدي عبد الجبار الفجيجي العالم المشهور الذي سبقت الإشارة إليه. كان هذا العالم الجليل أحد آباء جده لأمه، فأراد هذا الأخير أن يخلد اسمه في حفيده تيمناً به…»[4]. كما تمتد هذه الحفريات لتطول تاريخ المنطقة العتيق، وهنا تنثال من الذاكرة صور محطات متعددة ومتنوعة مستعادة. وهنا يتم استحضار الكثير من الأخبار عن التاريخ العميق لمدينة فجيج، من حيث: التسمية، والسكان الأصليون، والموقع الجغرافي، تاريخ المقاومة للمستعمر، أهم رموز المقاومة، رموز رجال الدين والعلم، دون أن يتناسى عادات وتقاليد المنطقة التي كانت تشكل لحمة المجتمع مثل: “التويزة”، حيث يذكر أن أهل القبيلة وهم منهمكون في بناء سقف المسجد :«كانوا يتحركون بوتائر متناغمة ينشدون أناشيد جماعية فيتناغم صوتهم الجماعي مع إيقاع الملاكز على أرضية سقف المسجد….» [5].
أما باقي مظاهر وتجليات الحفريات في هذا الكتاب، فتلوح من خلال إعادة قراءة مظاهر البداوة والتحضر والتغريب في تلك الفترة. إذ يشدد الجابري على وجود تراتب ثقافي أو طبقات إن صح التعبير في الثقافة الواحدة. ذلك أن اختلاف ثقافة “البادية” (تعني هنا كل ما هو خارج المدن) عن ثقافة “المدينة” (ثقافة الأحياء الأرستقراطية التقليدية) ظاهرة وجلية، ترافق تاريخ المغرب منذ أقدم العصور إلى الآن.
بالإضافة إلى رصد المذكرات ما وقع من تحولات نتيجة المد الأوربي الحداثي الذي بدأ ينتشر ويتغلغل من خلال الاستعمار، حيث شرع المستعمر في غرس بنيات الحضارة الحديثة في الأقطار المستعمرة مركزاً على “المناطق النافعة”. هكذا أخذ مركب ثقافي آخر، أوربي “حداثي”، يترسب شيئاً فشيئاً فوق ثقافة “رقة الحضارة” وعلى هوامشها، «ليتحول “الجبل” الثقافي ذي السفحين إلى ما يشبه مقطعاً جيولوجياً من طبقات ثلاث: مقطع ثقافة “خشونة البادية” ومقطع ثقافة “رقة الحضارة”، ومقطع ثقافة “العصر الحديث”»[6].
وبالرغم من السطحية الظاهرة لبعض هذه الأحداث، فإن اندراجها في سياق نفسي واجتماعي وثقافي محدد، يعطيها أبعاداً ودلالات زاخرة في هذا السياق. ذلك أن الرهان الأساس في هذه الحفريات كان هو استعادة نوع من الفهم الخاص لطبقات تلك الذاكرة المكتنزة بالأخبار والمعطيات والوقائع.
2 دلالات توظيف الصورة في “الحفريات…”
لم يعد مفهوم الكِتاب مقتصراً على ما يحمل بين طياته من إبداع، بل أصبح التركيز على مظهره الجمالي من بين الاهتمامات الملحوظة والطريفة للكتَّاب والناشرين قبل إخراج الكتاب إلى السوق. وهذا ما يَبْرُز بجلاء في كل ما يتعلق بالجانب المادي في صناعة الكتاب: شكليات تقديم الكتاب، طريقة عرضه في السوق...
وقد حظيَ غلافُ كتاب “حفريات من الذاكرة” بصورة تفي تأويلاتُها وتشكيلاتها الدلالية بمضامين الحفريات، كما تتصادى، كذلك، مع العنوان الرئيس والفرعي في أكثر من جانب، من هنا يتحقق جانب التفاعل والتجاوب بين عناصر العتبات في هذا النص. إن صورة الغلاف تعتبر إحدى العناصر الأساسية التي يتم من خلالها التعرف على مضمون الكتاب تعرفاً ثانياً، بعد تعرفنا الأولي من خلال محطة العنوان. ذلك أن صورة غلاف الكتاب تمثل الأيقونة الحية للعنوان، سواء من خلال طبيعة الصورة التي تبدو أنها من الصور المأخوذة باللونين الأبيض والأسود (على مستوى تاريخية الصورة)، كما نجدها تمثل روح العنوان، كذلك، من حيث المدلولات الأخرى، التي تعطي الانطباع بأننا أمام درب من الدروب العتيقة للمدينة، حيث يتراوح تقديم هذا الزقاق بين العتمة (اللون البني) والإضاءة (اللون الأبيض). في حين تقدم نهاية هذا الزقاق بشكل تدريجي، وهي عبارة عن ثقب في جدار ينفذ منه ضوء خافت، كأنه منتهى الزقاق في دقته المتناهية. وإذا كانت الحمرة الضاربة إلى اللون البني تؤطر صورة الغلاف، فلأن هذا اللون عادة ما ينسب إليه شدة الصيف والحرارة، وهذا ما يعادل المناخ الطبيعي للمنطقة المحال عليها مرجعياً. أما اللون الأبيض، فعادة ما يوظف على أساس أنه لون فجري، أو هو لحظة الفراغ التام بين الليل والنهار، أو أنه ذلك اللون البدئي الذي يصبح في مفهومه النهاري لون الكشف[7].
أما ذكاء اختيار موضوع الصورة المركزي، فلا يتأتى من هذه الصور في حد ذاتها (ونظيرها كثير في بطاقات الكارطبوسطال)، وإنما من خلال ما تخلقه من هارومونية مع المكان الموصوف (دروب فيجيج)، ومع العنوان الحامل لدلالات العتاقة والقدم (اللونين الأبيض والبني)، بالإضافة إلى أن الصورة توحي بسفر عميق في نفق يترواح بين الإضاءة والعتمة (السفر في الأزمنة الماضية)، وينتهي مسار هذا الزقاق العتيق بثقب في جدار يمثل كوة ضوء خافتة تتراءى بعيدة لدى الناظر. هكذا تخلق الصورة اتساقاً وانسجاما هارمونيين مع كل من العنوان الرئيس، وكذا مع العنوان الفرعي كذلك، ومع ما سيتضمنه المتن بطريقة استباقية. إذ بمجرد ما يتلقى الرائي هذه الصورة، حتى يتحول فعل النظر، في سياق التفاعل السيميائي، من مجرد فعل للإبصار المحايد إلى انخراط عضوي في فعل الإبصار من خلال شبكة من الانفعالات الإدراكية والمفهومية، التي سيتمثلها عند انتهاء قراءة الكتاب. وهذا ما يحاول الكاتب تقريبه إلينا في المتن لاحقاً. يقول الجابري في وصف نظير هذه الأزقة: «كانت فيجيج تتألف زمن طفولة صاحبنا وما زالت إلى اليوم من سبعة قصور. و”القصر” هو عبارة عن تجمع سكني، من منازل مبنية من الطوب ومسقفة بخشب النخل والتراب. أما الأزقة فبعضها عار وبعضها عليه سقف يحمل غرفة تابعة لهذا المنزل أو ذاك»[8]. والظاهر أن هذا التوصيف ينطبق على الصورة موضوع غلاف الكتاب. صورة تعرفنا بنموذج من بعض الممرات الضيقة للمدينة القديمة، ربما ليصنع منها الكاتب بعد ذلك بوابة فسيحة للسرد من منظوره الخاص. في حين نجد أن صفحة الغلاف الأخيرة (الصفحة الرابعة)، تتضمن منظراً عاما لجزء من القصر في بدايات ساعات الشفق، مع شموخ باسق لشجر النخيل الذي يتباهى به سكان المنطقة (فجيج).
أما الصور الأخرى التي وضعها الجابري في ذيل الكتاب، فموضوعاتها متعددة: منها صور شمسية للمناضل الذي له حضور قوي في الكتاب وهو: “الحاج محمد أفرج” (بالأبيض والأسود). بالإضافة إلى صور ملونة أخرى عن مآثر معمارية وتاريخية من صميم المدينة العتيقة: الصومعة، والمسجد الجامع، مدرسة النهضة المحمدية، أطلال من قصر أولاد جابر، منظر عام لقصر زناكة. هذه الصور تعبر عن عمق ارتباط الكاتب بالمكان، وتلقي، في الآن ذاته، نظرة مختصرة على مآثر بوابة الصحراء في مختلف تمظهراتها. فهي صورة ورقية حية، تنقل موضوعاً وفضاء، تجسده وتشخصه كاختيار جمالي قبل أن يكون اختياراً مرجعياً تماثلياً. إنها صور استعارية لجماليات الفضاء الذي فتن به الكاتب أيما افتتان. صور تمثل نسقا دلاليا يواكب رؤية الكاتب ومقصديته. وباختصار شديد: إنها، في الأخير، الشبيه الكامل للواقع/ المكان دونما توهيم أو تعمية، وبذلك يتلازم «المقروء»Lisible»»، مع «المرئي» visible»» في تشكيل العناصر المادية لغلاف الكتاب المذكور ويتفاعل معه.
وهنا نستحضر دلالة البعد الأركيولوجي في إستراتيجية الكتاب ككل. ففي هذا الجانب بالضبط، يغدو الكاتب، من خلال اختياره للصور إياها، بمثابة أركيولوجي شغوف بالمحافظة على الآثار الرمزية للمنطقة. أما الكتاب فيصبح متحفاً للصور المميزة التي تجسد جماليات المكان من وجهة نظر الكاتب نفسه. هذه الصور وإن بدت لنا مألوفة وعادية إلا أن معانيها عميقة وباطنية من منظور من يحرص على المحافظة عليها كقطع أثرية بالغة القيمة.
من هذا المنظور التفاعلي، يتحقق ذلك التلاؤم الجواني (تمثلات الكاتب لعنصر المكان) والبراني (المكان في تعدده وتنوعه)...فوصفه للمكان، من هذا المنظور، هو انبجاس جواني لطاقة يتم تحريرها عبر فائض القيمة من التمثلات الرمزية التي يحتفظ بها الكاتب عن مسقط رأسه. وهذا ما يعبر عنه الجابري لدى قوله: «أن يعيش المرء ذكرى معينة بطانتها الوجدانية أو بما يماثلها تقريباً شيء ممتع حقاً وإن كان ينطوي في بعض الأحيان على تحسر أو ما يشبهه. فالأمر يتعلق هنا بما يشبه”السفر إلى الماضي” في جو من نسيان الذات والخروج عن العالم»[9].
ثانياً: حفريات الجابري في مراتع الصبا والشباب
يشعر الجابري وهو يتهيأ لمواصلة تتبع منعرجات مساره الشخصي أيام طفولته، والتعريف بالبيئة التي نشأ فيها وقضى طفولته، أن الطبيعة الصحراوية قد أثرت عليه في كثير من النواحي، وصبغته بصبغتها. هذا ما تجليه لنا حفرياته التي يحتفي من خلالها احتفاء العاشق بالمكان الأول، مكان النشأة (فجيج). فقد رسخت الصحراء (باعبتارها فضاء رمزياً) قيمة التحدي لدى الجابري تجاه كل العوائق الذاتية أو الموضوعية التي قد تعترض مساراته المختلفة. هذه القيمة الروحية مثلت له أعظم الأسوار والحصون الداخلية لدرء عناصر الفشل واليأس والغبن الاجتماعي، كما أكسبته ثقة قصوى في الحلم بغد أفضل، وسكبت الكثير من مياه الفرح في دوارق الروح، وعلمته الدرس الأساس في حياته: أنه ليس ثمة ما يُثري فقر الجسد كغنى الروح، وأن بذرة العمل الدؤوب، هي الطريق الأنجع لاقتطاف ثمرة النجاح المرتقب. فهذا المفكر الكبير هو ابن هذا الفضاء الصحراوي القاسي، ورؤيته للعالم هي رؤية كاتب تطبع بطباع أهل الصحراء. إنه صحراوي حتى العظم، من هنا درجة تماهيه مع عينة من النباتات الصحراوية التي تقاوم كل أشكال التصحر والتعرية، نباتات عرفت سيقانُ جذاميرها كيف تشق طريقا عبر تلك الأرض الجرداء، التي لا نعدم فيها نخيلاً وواحات فيحاء بين أفياء هذا الفضاء الصحراوي أو ذاك، إذ تموت النباتات التي لا ترتوي في مقاومة الزمن من عمق ذاتها، إلى أن تبلغ أعمق الطبقات الأرضية، حيث الفرشة المائية متاحة لمن يصبر، ويشقى ويغالب عوامل الزمن وصروفه. فهذا الفضاء، من منظور الجابري، ليس هو المساحة الجغرافية الصماء، ولكنه نتاج علاقة هذه الجغرافيا بالبشر في ديناميتهم اليومية، وفي كل ممارساتهم الحياتية: طقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم. وكأن طموح الرجل الجامح هو أن يكتب عن الصحراء عبر تجلياتها المختلفة، معمقاً هذا كله بفكرة بناء حفرياته، في هذا الشق بالضبط، بالعناصر الأربعة للكون التي توارثناها عن الأسلاف: التراب والماء والهواء والنار.
فما قام به الجابري بالأساس هو نوع من “حفريات الذاكرة”: ذاكرة مدن “الأطراف” التي همشها المستعمر، واعتبرها مندرجة في ما يسمى ب”المغرب غير النافع”، فتكرست هذه الرؤية بطرق أخرى في مراحل ما بعد الاستقلال إلى يومنا هذا. فمن وجهة نظر الجابري، عندما بدأ المد الأوربي الحداثي ينتشر ويتغلغل من خلال الاستعمار، وبدأ هذا الأخير يغرس بنيات الحضارة الحديثة في الأقطار المستعمرة مركزاً على “المناطق النافعة”، أخذ مركب ثقافي آخر، أوربي: “حداثي”، يترسب شيئاً فشيئاً فوق ثقافة “رقة الحضارة” وعلى هوامشها، ليتحول “الجبل” الثقافي ذي السفحين إلى ما يشبه مقطعاً جيولوجياً من طبقات ثلاث: «مقطع ثقافة “خشونة البادية” ومقطع ثقافة “رقة الحضارة”، ومقطع ثقافة “العصر الحديث”»[10]. هكذا غدت فجيج (جنوب الروح) مسقط رأسه، مشهداً شاسعاً للتعبير والبوح المتأني. فالمكان هنا ليس مجرد فضاء لمراتع الصبا والشقاوة والنزق فهو يحتوي، كذلك، على الشخصيات والأحداث، ويمسك بتلابيب الزمن، بل هو عمق جغرافي وتاريخي وجمالي أيضاً، حيث نجده يسائل الأطلال الدارسة ويستنطقها، ويستكشف علامات المكان وأثرها على كل الموجودات، ويناجي التاريخ المحلي الحديث مرات عديدة، منقباً في طبقات تشكل المجتمع الفيجيجي، باحثاً عن حقائق لم يكتبها التاريخ المحلي للمنطقة في سجلاته الرسمية.
ويبتدئ وصف المكان في مفتتح هذه الحفريات بتحديد الموقع الجغرافي لفجيج ورصد تضاريسه، ومنها ينتقل إلى البناء المعماري للمدينة (القصور الخربة)، ليغوص بعدها عميقاً في وصف دواخل البيوت بأثاثها، وبتقسيم هذه القصور، وصولاً في النهاية إلى سرد بعض الأحداث والوقائع العجيبة التي يحفل بها المكان.
1 تجليات المكان في “الحفريات…”
من الأفضية الحميمة في حفريات الجابري، نجد صورة: “البيت” الفجيجي المرسوم والموصوف بعناية فائقة. فحالما يستدعي الفرد منا بيت طفولته ينخرط مباشرة في وضعية حلمية، تمهد للمتذكر أسباب الشعور بالطمأنينة والأمان. فغاستون باشلار يعتبر البيت كياناً من الصور التي تعطي الإنسان براهين أو أوهام التوازن، ونحن نعيد تخيل حقيقة هذا البيت باستمرار، بحيث «إن تمييز كل صوره يعني أن نكتشف روح البيت»[11] عموما، باعتباره فضاء حاملاً لقيم الراحة والدفء والاستقرار الإنساني. فهذا البيت بالنسبة للجابري لم يكن فضاء “خاصا” بهذا المعنى، بقدر ما كان “ملكاً” يشارك الأسرة فيه كائنات أخرى (حيوانات منزلية أليفة وطيور…)، وكائنات لا يؤمن شرها ولكنها غدت مع الوقت من “أهل الدار”.
لكن مذكرات الجابري لم تقتصر على الوصف والملاحظة والتعليق على ما هو ظاهر، بل حاولت الكشف عن البنية العميقة للمكان الصحراوي بصفة عامة والفجيجي خاصة، وأثرها في الفرد والجماعة عبر تتبع عنصر المدهش والغريب في تمظهراتها. فلطالما وصفت الصحراء بالفضاء المدهش والعجيب والملغز،؛ لأنها مهد لكل ما هو مقدس ومفارق للواقع وعجائبي، وهذا ما يجليه الجابري في ثنايا هذه الحفريات…
وفي هذا المقام، يسترجع الجابري قصة “صاحبة الدار” التي انطبعت في ذاكرته إلى اليوم. ففي ذلك المساء والظلام يخيم على جميع أجزاء البيت، إلا من أشعة خافتة يرسلها مصباح الزيت المعلق على جانب الموقد؛ «فجأة استرعى انتباه الجميع صوت في السقف شبيه بحفيف الأشجار، فالتفتوا جميعاً بما فيهم صاحبنا الذي لم يكن عمره يتجاوز الرابعة، وإذا به يرى ما يشبه قطعة من حبل غليظ، تزحف في هدوء وكبرياء على حافة الجدار، تلامس السقف في اتجاه ثقب على الجدار المقابل (…) نظر أفراد العائلة إليها وقال احدهم بكل هدوء وعدم اكتراث: “إنها أفعى”. أما صاحبنا فقد انتابه شعور بالخوف أول الأمر ولكنه سرعان ما عاد إليه كامل هدوئه واطمئنانه عندما سمع جده يقول: “إنها صاحبة الدار، لا تؤذي أحداً، فلا تشغلوا أنفسكم بها”»[12]. فذكريات العالم الخارجي لن يكون لها أبداً نفس وقع الذكريات المستوحاة من فضاء البيت على حد تعبير باشلار[13].
كما أنه من بين أهم الوقائع التي انطبعت في الذهن، وعلاها غبار الزمن، ثم استعادتها الذاكرة في حالة صفاء ذهني ملحوظ: الذكريات التي تحضر بمناسبة الحديث عن الكائنات التي “تشارك” الإنسان في ملكية البيت أو أمكنة أخرى (منازل وبساتين وغيرها). إنها استرجاعات تتعلق بالمخلوقات المفارقة للواقع من جن وعفاريت وكائنات أخرى غير مرئية، وهم أكثر شركاء بني الإنسان أهمية في تلك الأزمنة والأمكنة. إنهم لا يرون في النهار ولكنهم يعمرون المكان ليلاً كما كان متصوراً وقتذاك. يتذكر الكاتب كيف كان يستيقظ ليلاً على دقات ترسل صوتاً أشبه بصوت الدق على المهراس أو على مسمار في الجدار، فينتابه الخوف ويلتصق بجسم من كان ينام بجانبه. ولكن سرعان ما كان يعود إليه اطمئنانه «عندما يقول له الذي بجانبه: نم لا تخف، إنهم فقط الذين لا يسمّون، إنهم “المسلمين” يقومون بأشغالهم، يدقون القهوة أو يثبتون وتدا ً(أي الجن)»[14].
وعموماً فقد كان كل شيء في هذه الأمكنة «يرتبط مع غيره من الأشياء بعلاقة وشيجة، علاقة العشرة والمساكنة: الأطفال والأمهات والآباء، والإخوة والأقارب، والحيوانات والطيور والزواحف والحشرات والجن والملائكة والقمر والنجوم… كل هذه الكائنات وغيرها كانت تسكن فضاء واحداً، تربطها مع بعضها علاقات الألفة والمعاشرة وعلاقات “المعرفة”: الجميع يعرف القمر والقمر يعرف الجميع…»[15]. فهو يتمثل عبر كل هذه الحيوات والأشياء، وما يميز وجودها أنها عناصر فاعلة ومؤثرة في عالم المكان، لا تظهر مستقلة عن وجود الإنسان، بل تتجلى كجزء أساس من هذا العالم.
2 مظاهر الاحتفاء بالجمال الطفولي في “الحفريات…”
في هذه المذكرات ثمة إصرار مكين على ضرورة التوقف عند مرحلة الطفولة، والغوص في تفاصيلها التي لا ضفاف لها. فالرجل مفتون بالجمال الطفولي الأصيل، ربما حسب تعريف برنارد شو: “العبقرية هي استعادة الطفولة عن قصد”؛ لذلك لا يجد القارئ أي غموض في توصيف مؤثثات المكان الذي تعبق بتفاصيله ذاكرة الكاتب، حيث نلفي أنفسنا أمام صفاء مدهش في عرض حيوية المكان الفجيجي الموصوف، من خلال وعي طفل منبهر بتضاريس الحيز الفضائي الذي يعيش في خضمه. فالجابري يستعيد تلك الأمكنة بنوع من النوسطالجيا العميقة، كما لو كان يعيد اسكتشاف أبجدية الحياة من جديد. فها هنا المنزل الغابر، وهناك الترعة المترعة، وفي جانب آخر ينتصب المسيد، وذكريات أخرى قابعة في شقوق الذاكرة تتقطر منها تقطراً.
وتشق الحفريات طريقها إلى ذاكرة سحيقة، عبرها يستكشف الكاتب قوة التعرف على الذات الحاضرة، من خلال القيم المفتقدة التي رسخها الزمن الطفولي، وبالتالي اللوذ بماض تتفجر صوره عن طريق إشراقات باهرة على شكل ارتجاعات، تنثال على تفكيره عبر صوت داخلي، ليستكين إلى لحظات الزمن الطفولي، كأنما يجد الجابري لذة وراحة واستمتاعا في فعل الحكي هذا. وحينما سيخرج الجابري من فضاء البيت/الداخل سينتقل بنا إلى فضاء الشارع/ الخارج، حيث يسترجع ذكريات صداقاته مع أترابه واقرانه، ليتوقف عند صداقته مع طفل في مثل سنه، يسكن قريبا من منزله، «لا بل كان المنزلان متلاصقان يسند أحدهما الآخر ويسندهما معاً من الخلف المسجد الكبير، الجامع. كان ابن الجار واسمه “حمو زايد”، بينما كان صاحبنا يومذاك يدعى “حمو عابد” كان طفلاً في مثل سنه: ما بين الثانية والثالثة من عمرهما…» [16]. يستطرد الجابري بنوع من التلذذ والوله بما سيحكيه سرد أطوار صداقته مع هذا الفتى، كما لو أن الأمر يتعلق بمرحلة مقتطعة من مسار الزمن الواقعي. وهنا يشبه علاقته بصاحبه: «بعلاقة المتصوف مع ربه. إن صداقة الأطفال تنطوي على أسرار لا يعرفها الكبار، أسرار فقدوها نهائياً عندما فقدوا براءة الأطفال…» [17].
فقد كانت نوبات الحنين إلى الماضي تجتاح الجابري اجتياحاً هادراً، أما الصور التي يتمثل فيها هذا الماضي، فهي صور الحياة الهادئة المسالمة الساذجة العفوية والبريئة التي كان يحياها في شبابه، وفي مراتع الصبا بين رفاقه وأترابه. وهي صور تنحو به منحى رومانسياً، وفاءً لهذا الماضي الجميل الذي يتفيأ الجابري بظلاله الوارفة، كأنه يحلم باسترداد بعضه من قبضة الدهر الغشوم، كما الفردوس المفقود.
وإذا كان مجال الحديث عن جنوب الروح «يقتضي الحديث عن الصحراء التي تنتمي إلى سجل الخيالي أكثر مما يقتضي الحديث عن تلك التي تنتمي إلى سجل الواقعي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الصحراء الواقعية هي بهذا الشكل أو ذاك من العناصر الأساسية في تكوين الصحراء المتخيلة»([18])، فإن الصور الحالمة التي رسختها مرحلة الطفولة في وجدان الجابري تتضاعف وتكاثر. وهنا يسجل الجابري الفرق بين السذاجة والبراءة في سلوك الأطفال من خلال لعبة “الزوج والزوجة”، مشيراً إلى أن الأطفال يتصرفون في هذه اللعبة لا ب”براءة الأطفال” بل بحيلة ومهارة ساذجتين، يخفون بهما سلوكهم على ذويهم، غير هادفين إلى الحصول على أية متعة سوى متعة “الخفي” و”الممنوع”، تدفعهم إلى ذلك الرغبة في تقليد الكبار.
في ظل هذا التصعيد الذي بموجبه يرتفع زمن الطفل إلى زمن الحلم المقتطع من الزمن والمكان الواقعيين، يتذكر لحظة من اللحظات، أثناء وصفه لعملية بناء وترميم جزء من المسيد، لم يشعر إلا والقسم الأعظم من الرجال الذين كانوا منهمكين في العمل وقد اختفوا تحت التراب. لقد ابتلعتهم الأرض ابتلاعاً، حيث هوى بهم سقف المسجد فصاروا تحت ركامه. نجا صاحب الحفريات بأعجوبة من هذا الحادث، بعد أن شعر فجأة بيد قوية تمسكه من خلف وتلقي به بعيداً إلى الوراء.. بينما قضى صاحبه في هذا الحادث المأساوي الذي لا زالت كل حركاته وسكناته تتردد في ذاكرته.
كما عكف الجابري في حفرياته، كذلك، على رصد مظاهر الحركة في دروب وأزقة القصور، ووصف مظاهر عيش الناس، وكيف يدبرون أمورهم الحياتية المتعددة والمتشعبة، من خلالها يتحرى كل ملامح هذه الموصوفات عبر تلك اللقطات الشديدة الاختصار، التي برع في استدعائها بنوع من الرؤية المجهرية الدقيقة. فقد استطاع الجابري أن يتمثل روح الجنوب بعوالمه وقيمه ومفارقاته، إذ جعل منه تعبيراً رمزياً واستعارياً عن مدن الجنوب، يستشرف عوالم تطفح بالغرابة وبعناصر العجيب من الوقائع والأحداث، عبر استحضار صورة المرأة وعلاقتها بالغواية؛ صورة المقاومة المرتبطة بالعرض والشرف. وفي هذا النطاق الخاص، يورد الجابري حكاية الوصية التي غدت موشومة في طبقات وجدانه ولازمته طول العمر، وذلك حينما صادفه جده وهو يلعب مع الطفلة زوجة خاله في المنزل حينها دعاه إليه ليهمس له في أذنه: “لا تلعب مع فلانة (زوجة خاله)، إنها امرأة…”.
ويؤكد الجابري اليوم تأكيدا قاطعاً أنه ما أن سمع من جده تلك الكلمات حتى شعر بخندق لا قرار له قد حفر فجأة ليفصل بينه ك”رجل” وبين فلانة ك”امرأة”. وأكثر من ذلك يستطيع أن يؤكد جازماً أنه منذ تلك اللحظة «رسخ في وعيه أن علاقة “الذكر” ب”الأنثى” من بني الإنسان لا يمكن أن تكون بريئة بالكامل مهما كان سنهما.
لقد صار يدرك منذ ذلك الوقت أنه لا بد أن تكون هناك وراء علاقة الصداقة واللعب بين الصبي والصبية، بين الفتى والفتاة، شيء غير مرغوب فيه. لم يكن صاحبنا يدرك ما هذا “الشيء”، ولكنه مع ذلك يستطيع أن يؤكد الآن أنه شعر آنذاك بما يشبه وخز الضمير من جراء ما كان يمارسه من قبل من ألعاب”الزوج والزوجة”. هذه الواقعة بقيت حية في وعيه، تفعل فعلها فيه منذ ذلك الوقت، بل إنه يستطيع أن يخمن بأن أناه الأعلى، الخاص بهذا المجال، قد تأسس على هذه الواقعة، وبالتالي فعلاقته بالمرأة عموماً “محكومة”، إلى حد كبير بهذا النمط من الأنا الأعلى، حتى أنه ليذكر أنه كثيراً ما حدث له وهو شاب أن حمل نفسه على صرف النظر عن أية فتاة تشد إليها بصره، وذلك تحت ضغط سؤال كان يأتيه من أعماق نفسه ليهمس في أذنه: “ما دمت لن تتزوجها فلماذا تشغل نفسك بالنظر إليها”؟[19].
كما أن الفضاء في الحفريات ليس زمنياً فحسب، بل إنه تاريخي كذلك، أي أنه مجال لما هو واقعي وما هو مفارق للواقع، ما هو ديني وما هو دنيوي، ما هو خرافي وما هو أسطوري. ويتم تعزيز هذه التذكرات بتعيين أسماء شخصيات (مربين قساة من عوالم المدرسة أو المسيد) وأماكن (مغلقة ومفتوحة)، وفقرات موجزة منتزعة من التواريخ والرسائل واليوميات التي لها أكثر من علاقة مع الواقع الموضوعي للأفراد والجماعات.
وإذا كان للمكان تعدده وتنوعه في هذه الحفريات؛ فإن للزمن امتدادات سواء في الماضي، مما يقتضي فهم اللحظات الزمنية المتباينة، ومحاولة تأويلها انطلاقاً من الحاضر. لأجل ذلك، فان المستوى الثاني من السرد لا يقتصر على استحضار أحداث ومغامرات عديدة في فجيج وبوعرفة ووجدة والدار البيضاء، بل يسعى الجابري إلى إبراز ذاته بقوة من خلال طبيعة الأفكار والتصورات والتأملات المرافقة لما عاشه، من هنا يظل الجانب الفكري والتربوي والتثقيفي حاضراً بقوة، ويطل علينا من ثنايا المذكرات وشقوقها.
ثالثاً: “الحفريات…” وقضايا التذكر والنسيان
جرت العادة أن يشبه المرء الذي يطالع ماضي حياته، مثل من يطالع كتاباً قد مزقت بعض صفحاته، وأتلف الكثير منها. وهذا راجع إلى الحوائل التي تحول دون الحفاظ الدقيق على هذا التاريخ الشخصي كما هو.
فهناك إكراهات لا إرادية كالنسيان الطبيعي الذي ينتج عن تقدم الإنسان في العمر، وإكراهات أخرى مرتبطة بالبعد الأخلاقي والاجتماعي الذي يتجلى في “الحياء”. فهذا العامل مستحضر لدى الكاتب العربي الذي يبدو ميالاً إلى التغطية والتستر، وإلى المكابرة وإخفاء ما لا ينسجم مع التيار العام، والقفز على ما قد ينال من سمعته وينقص من قيمته؛ قيمته الاجتماعية.
ولقد أثير على هامش قراءة هذا الكتاب نقاش مفصلي بين بعض المثقفين (حسن نجمي ومحمد أنزولا)، حول موضوع حدود التذكر والنسيان في الكتابات السير ذاتية. أما سياق هذا الحوار فيعود إلى إيراد الجابري بعض الوقائع التي كان لها الأثر الكبير في تكوينه النفسي. يتذكر الجابري بوضوح الوضع الجسماني الذي كانت عليه أمه وهي تغزل حينما اتجه برأسه، وهو يحبو، نحو تلك المنطقة الوحيدة من جسم أمه التي لم تكن في متناوله، والتي كانت تشكل بالنسبة إليه، المجهول الأكبر. والأطفال مولعون دوماً بالكشف عن الأسرار وارتياد المناطق الممنوعة. لم يشعر إلا ويد أمه «تدفعه بعيداً عنها دفعة عنيفة قضت على فضوله، وجعلته يحس بما يمكن أن يفسره اليوم بنوع من الندم، شبيه بذلك الذي يحس به من ارتكب خطأ واعترف به أما نفسه»[20].
فهل يستطيع الجابري أن يتذكر تلك الواقعة وهو ما يزال في سن مبكرة حينما كان يحبو (أي السنة الأولى والثانية من عمر الطفل)؟
سؤال مركزي تثيره “حفريات” الجابري من وجهات نظر مختلفة ومتباينة. إذ لا بد من الانطلاق من بديهة مؤداها: أن إعادة الخلق الحقيقي للحياة برمتها كما عاشها صاحب المذكرات، إعادة محكمة ودقيقة، لهي أمر مستحيل، مهما حرص الكاتب على التزام “الحقيقة” فيما يكتبه عن نفسه. فهو يضطر إلى انتخاب العبارة المناسبة التي تحول دون نقل الحدث/الأحداث بما يعادلها على المستوى النفسي والحسي الذي لا شك أن له فرادته التي تميز بها وقت وقوعها. ومما لا شك فيه أن الصياغة اللغوية وفق مبدأ التخييل، يضفي الكثير من التعديلات والتغييرات على الحدث الأصل، في حالة افتراضنا حقيقة ما يسرد ويروى. وقد أفصح الكثير من الكتاب في كتاباتهم الشخصية عن ذواتهم، مؤكدين صدق وصراحة ما يروونه، إلى حد أن بعضهم بلغ من حرصه على التزام “الصراحة” درجة التصريح بالعيوب والنزوات الشخصية.
أما عن جدلية التذكر والنسيان، ومدى الاعتماد على قوة الحافظة أو ضعفها، فإن للجابري وجهة نظر في الموضوع على المستوى المعرفي. وهذا الرأي هو الذي يدعم حقيقة ما أورده من أحداث ترتد إلى زمن سحيق، يقول في هذا الصدد: «على كل حال فمن الأمور المقررة في علم النفس أن ذكريات الإنسان قد ترجع إلى السنة الثانية من عمره، وهذا أمر شائع، ولكن هناك من يرجع بذكرياته إلى السنة الأولى. ومع أن هذه الذكريات المبكرة يطويها النسيان في الغالب بعد مدة وجيزة فإن منها ما يبقى حياً مدى الحياة لكونها تكون موضوع تذكر من حين لآخر. وهذا ما حدث لصاحبنا»[21]. فقد يكون لبعض الأحداث التي تشكل منعطفات كبرى مغزى مهماً، وأثراً كبيراً في نفسية الفرد، ولحجم وقعها على ما سواها من الأحداث الأخرى، فإنها تفرض نفسها على المتذكر، فتستقر في لا وعيه وتترسخ في ذاكرته. يقول برجسون في هذا المقام: «الذاكرة لا تقوم إطلاقا على تقهقر من الحاضر إلى الماضي، بل تقوم على العكس على تقدم من الماضي إلى الحاضر، في الماضي إنما نضع أنفسنا دفعة واحدة. ننطلق من حالة ممكنة نسوقها شيئا فشيئا، خلال سلسلة من مستويات الشعور المختلفة، حتى الحد الذي تصير فيه مادية في إدراك راهن، أي حتى النقطة التي تصبح فيها حاضرة وفاعلة»[22].
فما إن تستدعي الذاكرة هذا الحدث الذي طواه النسيان، على إثر مناسبة طارئة أو خاطرة عابرة أو لمحة مضيئة يهجس بها الذهن، حتى تشعَّ الذاكرة من جديد، فتستعيد الماضي الذي اندثر أو كاد، وتستحضر الصورة التي غابت في أفق الذاكرة، فإذا بها كأنما تصحو من نوم طويل أو تستيقظ من سبات قديم. هذه الواقعة بالضبط تحفر عميقاً في دواخل الكاتب، وتعود بين الفينة والأخرى للظهور والتجلي. ذلك أن الجابري يشدد على صدق هذه الذكرى التي ترتد فعلاً إلى سن مبكرة (السنة الأولى أو أكثر). ومستنده في ذلك أنه كان يسترجعها، أو على الأصح، كانت تعود إليه تلقائياً لتفرض نفسها من جديد في ذاكرته الحية، كلما شاهد أمه في مثل ذلك الوضع الجسماني وهي بصدد الغزل، فيحني رأسه وينصرف أو يتشاغل بشيء آخر، وكأنه يحاول نسيان ذلك المشهد من جهة، كما أن هذه الواقعة مرتبطة بلحظة «الفطام» بمعناه الواسع. فمن منظور الجابري يسجل ذلك الحدث فعلاً نقطة البداية في شعور الطفل بالتغاير مع أمه: أي إحساسه بأن أمه غير وأنه غير، ومن هنا تبدأ لحظة تشكل الوعي والأنا؛ وبالتالي الشخصية كلها من جهة أخرى. ومن هنا أهمية الواقعة التي تتمثل في تلك “الدفعة” التي تلقاها من أمه «عندما كانت تغزل وفي الظروف التي شرحتها فالمقصود من إيراد هذه الدفعة هو هذه الدفعة نفسها بوصفها “الفطام الحقيقي” الذي تم قبل “الفطام الرسمي” كما ورد حرفياً في الحفريات”»[23].
رابعاً: “الحفريات…”: حدود الصدق في الرواية
لا شك أن استحضار الذكريات عادة ما يكون لها طابع تخييلي وتأويلي. هذه الذكريات لا تختزن في طبقات الذاكرة بطريقة موضوعية ومحايدة، ولكنها تودع في حافظة الذاكرة من منظور تأويل الكاتب لها، وإحساسه بها ووقعها على كيانه، كخطوة أولى تتلوها بعد ذلك عملية إدراجها في سلسلة من العلاقات القيمية والعاطفية التي يحولها الكاتب إلى تجربة ذاتية، لها خصوصية فنية ما. إذ حينما يحكي الجابري عن بعض التفاصيل في طفولته المبكرة أو المتأخرة أو حتى في مرحلة الشباب، فهذا نوع من التذكر التخيلي…غير أن الطريقة التي عاش بها الجابري هذه الأحداث وهو صغير قد انتهت وماتت…وانتخابها من حافظة الذاكرة، وحديثه عنها الآن هو الذي يمنحها القيمة الرمزية من خلال كتابة المذكرات. فليس يهم ما إذا كانت تلك الذكريات موجودة، أم غير موجودة، لكن المهم هو كيف يستدعيها الكاتب الآن، وكيف يعيد كتابتها من جديد.. إذ ليست الوقائع بحد ذاتها (وإن كانت لها أهمية لا يمكن تجاهلها) هي العمدة، وإنما كيف وقعت عبر استحضارنا لها الآن هو الذي يعطي لكُتَّابها مصداقيته وفاعليته. بيد أن اشتغال الذاكرة وفعل التذكر ما كانا ممكنين بدون وساطة اللغة. إنها هي التي تجعل الذاكرة ممكنة، فخارج السرد الشفوي أو المكتوب لا وجود لشيء اسمه الذاكرة أو الماضي.
ولا شك أن الجابري ضمَّن مذكراته مجموعة من الوقائع والأحداث التي وشمت ذاكرته، وهي أحداث لها علاقة بالمجال التربوي والتعليمي والعاطفي السائد زمنئذ. يعود بنا الجابري إلى زمن آخر، وإلى عوالم أخرى، يرجع من خلالها مؤشر الذاكرة القهقرى ليطلعنا على مُعَلِّمين مازالت صورهم عالقة في الذاكرة.
ومن الصور التي بقيت موشومة في عمق الذاكرة، صورة مدرس اللغة العربية، وهو ينزل عقابه الشديد على الطفل الذي اتهمه المدرس ظلماً وعدواناً ب«التحرش الجنسي» بزميلته في الفصل.
هذا العقاب كان فيه المعلم ذا نزوع سادي أكثر مما كان رحيماً ومتسامحاً ومتحاوراً، وبدون تحقق من أسباب هذا العقاب. بطبيعة الحال، فالانضباط “العسكري” المفروض قهراً لا يسمح بالاحتجاج في نظير تلك الأحوال، ولا لمعرفة لغز هذا الاتهام الباطل والعقوبة الجسدية الظالمة.
أما باقي اللحظات المفصلية في مسار حياته التعليمية، فتجدر الإشارة إلى القرار الحاسم الذي اتخذه الجابري الطفل المتوثب، الذي بدا وكأنه يستشرف آفاق تعليمية جديدة، والمتمثل في تركه مهنة الخياطة التي كان قد احترفها لمدة وجيزة مع عمه، بعد أن اقتنع بضرورة القطع مع اختيار الخياطة نهائياً، واستئناف النشاط الدراسي الذي كان قد تقطع لأسباب اقتصادية وسياسية. ففي نهاية 1966 اجتاز في الآن نفسه امتحان الشهادة الثانوية (الإعدادية)، وامتحان الدبلوم الأول في الترجمة، فعينه مدير المدرسة معلماً لأقسام الشهادة الابتدائية، ثم اجتاز بعد ذلك امتحان الباكالوريا بنجاح في يونيو سنة 1957. كانت تلك هي المرة الأولى التي تعقد فيها دورة للباكالوريا المغربية المعربة، بصورة رسمية. وقد ترأس لجنتها الشهيد المهدي بن بركة الذي قرأ أسماء الناجحين بنفسه، في بهو نيابة المعهد العلمي (كلية العلوم حالياً). وأثناء حفل تلاوة أسماء الناجحين وتحية المهدي لهم، توقف عند اسم الجابري مبدياً إعجابه بترجمته للنص الفرنسي الذي أعطي لهم في الامتحان. وطلب منه أن يلتحق بجريدة العلم “العلم” (لسان حزب الاستقلال) بصفته مترجما، وذلك ما حصل، ثم بعد مدة من الزمن سيقرر صاحبنا منذ سنة 1953 بصورة حاسمة ونهائية، متابعة دراسته الجامعية في سوريا ليعود بعد ذلك منها في الصيف الموالي، وسيلتحق بالجريدة مرة ثانية، بعدما كان يراسلها من دمشق، وكانت مراسلاته ذات طابع ثقافي اجتماعي.
خلال مساره الإعلامي، كان الجابري متحمساً للأفكار الداعية إلى التحرر والاشتراكية. وهي بطبيعة الحال أفكار كانت مهيمنة في الحقل السوسيو ثقافي زمنئذ؛ أفكار تحلق في فضاء الأحلام بعيدًا عن الواقع المعيش؛ لأنها أفكار تُعْشب في حقول الحلم، وتذبل في أرض الصحو واليقظة. هكذا تم اغتيال المهدي بنبركة، وشملت الاعتقالات صفوف المناضلين، وكان الجابري من بينهم…فلقد كان حلم المناضلين وطنياً (استكمال تحرير الوطن)، وقومياً (الاحتلال الإسرائيلي)، وأممياً (الوقوف بجانب الأممية ضد الرأسمالية)، مع أن الجابري يستحضر بين الفينة والأخرى دروساً قيمة جداً من خلال إعادة قراءة هذا التاريخ الحديث. نستنتج مما سبق، أنه إذا كان النسيان ظاهرة بشرية طبيعية، فإن التذكر هو الآخر طبع إنساني كذلك. إلا أنه من المفيد طرح الإشكال المناسب بغية تحديد ما هو مأمول في هذا السياق. وهنا نؤكد أنه يستحيل الحسم في حقيقة صدق الكتاب في تناولهم لقضايا الثالوث المحرم في عالمنا العربي. حتى وإن صرح البعض منهم أنهم نقلوا تجربتهم بصدق وصراحة؛ فإن مفهوم الصدق من منظور البعض ستار يخفي أشياء يحرص القارئ على اكتشافها. ذلك أن اللسانيين، وأصحاب التحليل النفسي يلحون اليوم على أن عملية التواصل بين الناس تبنى أساساً على «المراوغة والاحتيال والكذب. فكل منا كاذب، تكلم أو خلد إلى الصمت»[24]. فقد غدا من المتعارف عليه أن الكاتب يعمل على إضفاء الكثير من الخيال على الأحداث والشخصيات أثناء التصوير، حتى تكون في ثوب الشخصيات الفنية، وليست في ثوب الشخصيات الواقعية في النهاية.
في الأخير، يجب التشديد على أن الاهتمام بهذا المفكر من خلال قراءة مذكراته، ينطوي على رغبة ملحة من أجل القبض على لحظات فريدة في تاريخ الأفكار لديه، وذلك ضمن دائرة المعارف التي تجمع بين ميراث الجابري الثقافي والفكري من جهة والسيرذاتي والإبداعي من جهة أخرى. ونحن إذ نتوقف أمام فيلسوف بحجم محمد عابد الجابري، فمن أجل أن نحتفي من خلاله بقيمة التنوع الثري في مجالات الفكر والوجود معاً، وذلك من خلال هذه المذكرات التي يمكن اعتبارها محصلة المعرفة والخيال والشعور والوعي الفردي المشروط بالزمان والمكان لرائد إمبراطورية الفكر العربي المعاصر المترامية الأطراف. وصفوة القول: إذا كان لا حق لمالك أرض في القيام بحفريات فيها، ولا حق له في المطالبة بملكية ما يمكن اكتشافه على أديمها أو في باطنها من مكتشفات أثرية، كما ليس له الحق في التمتع بهذه المكتشفات؛ فإن الجابري تحايل على هذه الممارسة القانونية ليقوم بأعمال الحفر والتنقيب والسبر العميق لطبقات كينونته، متحملاً في ذلك مسؤوليته الشخصية والمعنوية، في سبيل ما يمكن أن يستكشفه القارئ بمباركة الجابري، وقد تقمص دور عالم الآثار في هذه الرحلة الاستكشافية لبواطن سيرته الذاتية. هكذا عانقت حفريات الجابري المذكرات حينا، ودنت من المقالة حينا آخر، ولامست الانطباعات والخواطر حينا ثالثا، ليظل الكتاب في النهاية شكلا مفتوحا قابلا لتعدد القراءات، وممارسة كتابية مختلفة جامعة لأصناف القول وفنونه…يتقاطع فيها الذاتي بالموضوعي لتظل صورة شخصية الجابري في النهاية صورة يدخل “الثقافي” و”الاجتماعي” و”الوطني” في تركيبها، والوعي بجميع هذه القضايا يفترض انتقال الجابري من مستوى سيرة فرد فحسب، إلى سيرة جماعة، ولم لا سيرة مدينة أو سيرة وطن حتى.
—————————-
مراجع الدراسة:
[1] محمد عابد الجابري:”حفريات في الذاكرة”، مطبعة دار النشر المغربية، ط:1، الدار البيضاء، 1997، ص: 83.
[2] محمد عابد الجابري:”حفريات في الذاكرة”، مرجع سابق، ص:1.
[3] المرجع نفسه، ص: 278.
[4] محمد عابد الجابري:”حفريات في الذاكرة”، مرجع سابق ، ص:25.
[5] المرجع نفسه ، ص:41.
[6] المرجع نفسه، ص: 152.
[7] Jean Chevalier, Alain Ghee rant: " Dictionnaire des symbols", Ed. Robert Laffont / Jupiter, Paris, 1982. p: 126.
[8] محمد عابد الجابري: “حفريات في الذاكرة”، مرجع سابق، ص: 19
[9] المرجع نفسه، ص: 275.
[10] المرجع نفسه، ص: 152.
[11] Gaston Bachelard: “La poétique de l'espace”, Ed :Quadrige/PUF, Paris,1989, p:34.
[12] محمد عابد الجابري:”حفريات في الذاكرة”، مرجع سابق، ص: 11.
[13] Gaston Bachelard: “La poétique de l'espace”,Op. Cit, p:25.
[14] محمد عابد الجابري:”حفريات في الذاكرة”، مرجع سابق، ص: 11.
[15] المرجع نفسه، ص: 11.
[16] المرجع نفسه، ص:40.
[17] المرجع نفسه ، ص:42.
[18] حسن مودن:”الكتابة والصحراء”، جريدة العلم(الملحق الثقافي) ، 18/06/2005.
[19] محمد عابد الجابري:”حفريات في الذاكرة”، مرجع سابق، ص: 81.
[20] المرجع نفسه، ص: 7.
[21] المرجع نفسه، ص: 269.
[22] هنري برجسون: “المادة والذاكرة”، ترجمة: اسعد عربي درقاوي، منشورات وزارة الثقافة، ط 2 ، سوريا، 1985، ص:249.
[23] محمد عابد الجابري: “حفريات في الذاكرة”، مرجع سابق، ص: 268.
[24]- عبد الفتاح كليطو: ” الحكاية والتأويل”، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،
وزارةالثقافة©مجلة الثقافة المغربية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.