المشكلة أن كل برميل زيت يخرج من الأرض محمولاً على رأس برميل ماء. فإذا كان إنتاج حقل هجليج 50 الف برميل في اليوم فإن هناك 50 الف برميل ماء في اليوم. والماء يأتي ملوثاً بالزيت وبقايا المواد الكيميائية التي استخدمت في استخراجه. فأين يذهب ذلك الماء وكيف يتم التخلص منه؟ هذه هي المشكلة بالتبسيط الواجب معرفته. ذكرت في مقال الأمس أن المعالجة تتم عن طريق استخدام البكتريا التي تعمل على تكسير الزيت وتحويله إلى مواد يمتصها النبات. وليس أي نبات يمكن استخدامه فهناك مواصفات مطلوبة في النبات ... فإما أن يكون من طبيعة النبات امتصاص الملوثات الضارة والتعامل معها وتحويلها إلى مركبات لا خطورة منها، أو أن تضاف للنبات بعض العناصر الكيميائية المحفزة لتجعله يعمل في اتجاه تنقية الماء من الملوثات. فمثلاً عنصراً ساماً كالزرنيخ يمكن تحويله لمادة غير ضارة بواسطة زهرة الشمس Helianthus annuus وكذلك معدن الرصاص الذي يمتصة نبات المستردة الهندي Brassica juncea . كما إن نبات البنجر والشعير من خواصهما امتصاص ملح الطعام من الأرض بعد أن يكون قد غمرها ماء البحر. وهناك عدد كبير من النباتات يمكن أن تعمل في تجميع أكثر من مائتي مادة ملوثة وتحويلها لمواد غير ضارة. وقد لجأت الشركات العاملة في مجال النفط لاستخدام تلك النباتات في المياه المستخرجة مع النفط وبعد معالجتها وذلك للتأكد من سلامة البيئة التي تتدفق فيها مياه الآبار التي تتناقص فيها كمية النفط المستخرج تدريجياً مع ازدياد كمية المياه. والنظام المستخدم يستعمل ست بحيرات تخزين Storage Lagoons وست بحيرات دغل قصب أو بوص المستنقعات Reed Lagoons . والنظام يعمل بطريقة تصميم تلك البحيرات في تنظيم متواز Parallel أو بالتتالي Series. وترتبط بعضها ببعض بخطوط أنابيب تنقل الماء الملوث بالنفط في بدايته من آبار الضخ إلى أول حوضين رئيسين بمعدل 200 ألف برميل في اليوم ويتم تنقية الماء تنقية أولية يرجع بموجبها بعض النفط إلى الخط الرئيس الناقل بينما يتدفق الماء بعد ذلك عبر الانحدار الطبيعي للأرض وبفعل الجاذبية إلى أول بحيرة من بحيرات التجميع ثم إلى البحيرة التي تليها إلى أن يكتمل تدفقه عبر البحيرات الست وبعد ذلك يتخذ طريقه إلى البحيرات الست المخصصة لنمو الدغل القصبي أو البوص كبداية للمعالجة النباتية Phytoremediation . وتغطي مساحة البحيرات للدغل القصبي منطقة تمتد إلى 65 هكتاراً بسعة 800 ألف متر مكعب ولها قدرة استيعابية تخزينية لمدة 25 يوماً. وتبلغ المساحة الكلية 400 هكتار. وعبر قنوات محددة تتدفق تلك المياه الصالحة للزراعة لتسقي منطقة تعمل فيها الهيئة القومية للغابات لزراعتها بأشجار ذات قيمة اقتصادية كأشجار الأخشاب وأشجار الهشاب. وهذه تنثر بذورها مع بداية الخريف ومن المتوقع أن تنتشر في مساحات واسعة لاستصلاح الأراضي ولتوفير محصول نقدي لأهل المنطقة. وقد تم استزراع ألف فدان كما أن القائمين بأمر المشتل الموجود في معسكر الشركة بهجليج يجهزون سنوياً أكثر من 650 ألف شتلة وصلت الآن إلى مليون. وأخيراً يتدفق الماء النقي إلى بحيرتي تخزين مفتوحتين Open Storage Lagoons لقد استغرق نظام المعالجة البيولوجية منذ بداية إنشائه في مايو2004م عشرة شهور ويخضع الماء المعالج لمراقبة وتحليل مستمر يومياً واسبوعياً وشهرياً وسنوياً وذلك برصد كمية ودرجة الملوثات الهايدروكربونية والملوثات غير العضوية. وفي هذا الصدد استخدم موديل أو نموذج رياضي لمعرفة فاعلية المعالجة البيولوجية وأمكن تخفيض الملوثات إلى معدل لا يذكر- 350 مليجرام في الليتر. ولو كانت لتلك المعالجات بعض النقائص فهناك من علمائنا كالدكتور فيصل عبدالله سنادة الأستاذ بقسم النبات بجامعة الخرطوم وزملاؤه من الحادبين على البيئة والناشطين في مجالها ولهم من العلم والخبرة ما يسد أية ثغرات. بل يجب أن تستعين بهم تلك الشركات لأنهم سيكونون خط دفاعها الأول بعد أن يقدموا خبراتهم ويستيقنوا من سلامة ما يتم من إجراءات. إن التلوث النفطي يعتبر من أقل التلوثات تعقيداً لأن معالجته تعتمد على التخلص من عنصر واحد وهو عنصر الهايدروكاربونات مقارنة بالتلوث الصناعي وما يصاحبه من عشرات المواد السامة والمسرطنة. إن نظافة طن واحد من خام البترول أسهل وأقل تكلفة من نظافة طن من النفايات الصناعية. والأغراض التي تستخدم فيها المياه المعالجة تحددها نوعية المكونات التي تحملها ولكنها الآن تستخدم وسائل متطورة تجعل الماء صالحاً لشرب الحيوان والزراعة وهناك بعض الأسماك في البرك النهائية مما يدل على أن تلك المياه تحتوي على مخزون كبير من الأوكسجين الذي تحتاج إليه الأسماك لتنفسها التي يتغذى عليها طائر أبو السعن وتدريجياً سيتم التخلص من الملوثات مع خلق بيئة صالحة للرعي واصطياد الأسماك وتشرف على أبحاث الأسماك الدكتورة رانية محمد خير التي تحصلت على درجة الدكتوراه في السميات من بريطانيا وقد رأيت معملها في هجليج وما تقوم به من جهد مقدر في الوصول إلى ما يفيد في مجال الثروة السمكية التي ستستفيد حتماً من تنقية المياه بعد معالجتها. ولا مجال للمقارنة بما يحدث في حقول هجليج بما تحدثه شركة شل البريطانية في دلتا نهر النايجر دون أن تثير حفيظة الدول التي تهتم هذه الأيام بعمليات البترول في السودان. إن ما حدث من تلوث نفطي في الثمانينيات من القرن الماضي بعد جنوح حاملة النفط إكسون فالديز على سواحل ولاية ألاسكا لا يقارن من حيث الدمار الذي سببه بما تتم معالجته يومياً عندنا في هجليج. وكم يا ترى نسبة النفط الذي يتسرب من الباخرة كوندوليسا رايس وهي تجوب البحار والمحيطات؟ لقد رأت شركة شيفرون أن تخلد مديرتها السابقة فأطلقت اسمها على حاملة نفط من اسطولها الخرافي على وزن الباخرة الملكة إليزابيث الثانية. هذه ملكة وهذه كوندوليسا فمن يمسك بالدفة؟ ونحن فخورون بما ينجزه شبابنا وعلماؤنا في حقول النفط التي أصبح الدفاع عنها فرض عين لأنه دفاع عن مقدراتنا وثرواتنا.