يشب الطفل في عيش بئيس إن فتّح ووجد أباه عاملاً أوعاطلاً أومتوفىً.. هنا تجتهد الأم من أجل إعالة هذه «الأفواه والأرانب» التي تركها لها الزوج.. تجد أفراد هذه الأسرة في ملبس خشن ومأكل بالكاد يقيم الأود.. هذه الحالة الاقتصادية المخيفة تدفع بعضهم إلى المدارس الحكومية المجاورة والبعض الآخر إلى السوق لبيع الأكياس أو دفع درداقة ينقل بها مؤونات الموسرين من الدكان إلى العربة، وقد تجد منهم من يمسح زجاج السيارات عند إشارات المرور حيث يتنازل أمله في الحصول على المال تنازلاً طرديًا مع الرقم الأحمر الذي على الإشارة وربما ترك كل ذلك وصار مخلبًا لعصابة تخطف وتهاجم الموسرين متمثلاً قول المتنبي: وإن ترد الماء الذي شطره دم * وتسقي إذا لم يسق من لم يزاحم الطفل الذي بالمدرسة الحكومية تجده قد استفرغ جهده حتى صار مثلاً في النباهة والذكاء وهنا تتكالب «بعض» المدارس الخاصة على شرائه فهو حصان رابح بل قد تتكفّل بإعالة الأسرة حتى ظهور نتيجة الشهادة السودانية وعندما يُذاع اسمه مقرونًا مع اسم المدرسة تكون هذه أفضل دعاية تجارية بدلاً من تلك التي تسبب للسامعين النكد عبر الشاشات.. يتخرَّج هذا الشاب من الجامعة بتقدير رفيع في تخصص نادر فتتدافع نحوه الشركات الوطنية والأجنبية ويتفرّغ هو للتمني... قال أفلاطون: إن الأماني هي حلم المستيقظ وسلوة المحروم.. أخيرًا يجد وظيفة تجلب له المال بالعملات الحرة فيشيد العمائر ويطوف بلاد الله للمتعة والاستجمام، إما مع المدام أو بدونها وأنتم أدرى مني بالذي هوخير له!!! يخرج أولاده للدنيا على بساط سندسي وعيش رغد فيدخلون مدارس أجنبية ويتحدثون معظم اللغات عدا اللغة العربية التي أهانها أهلها من غير ذنب ثم يتعالون على الأقارب والجيران فلا يخرجون من بيوتهم إلا عبر المرآب في سيارات مظلمة... هذا الفراغ والفشل الذي يكتنفهم يجذب إليهم زمرة من أبناء الأبالسة المجرمين وهنا يكتمل الفريق فهؤلاء يملكون المال والفراغ وأولئك يعرفون مسالك النشوة والطرب والتخدير المنعش.. رويدًا رويدًا يبدأ المال بالزوال فإن أحجموا عن الإنفاق قال لهم أحد الصعاليك من شلتهم حاثًا إياهم على الصرف مستعينا بشعر أحد العرب: لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير والسرف فإن تولت فأحرى أن تجود بها * فالشكر منها إذا ما أدبرت خلف هذا النوع من الشعر يمثّل «عدة الشغل» بالنسبة لذاك القرين الردئ... تنقص الأموال فيبيع الأبناء بعض المال الثابت كالبيوت ثم شيكات طائرة ثم سجون ثم.... ثم... وأخيرًا يهبط الأبناء إلى الطبقة التي صعد منها أبوهم بجهد مضنٍ وسهر متصل والفرق بينهما هو أن أباهم الذي يرقد الآن طريح الفراش لإصابته بأمراض «دائمة العضوية» كالسكري والضغط وإفرازاتهما، قد جاء الى الفقر مضطرًا وخرج منه باختياره أما هم فقد جاءوا إلى الضنك والفاقة باختيارهم وهكذا الحياة، فهي اختيارًا في وجود الأخلاقيات النبيلة والوازع الديني وواضطرارًا في غيابهما... أنا خايف تقول لي اشرح!!