للمرة الثانية سوف نحاول أن نشرح للقارئ الكريم أين تذهب السيولة ومدى تأثيرها في البيئة الاقتصادية.. وسيكون ذلك بتبسيط الأمر بطريقة سهلة بعيداً عن التعقيدات الأكاديمية لزملائنا في المصارف والبنوك ومؤسسات التمويل. مثلاً نتصور أن هناك قرية مكونة من مائة شخص ومن بينهم عشرة أشخاص مؤثرين وناشطين مثل خلف الله سيد الطابونة وعوض الله بتاع الدكان وحمد الله بتاع الجزارة وقسم الله الجزار وحاجّة نفيسة المشاطة وحسنين العتالي وآخرين.. هؤلاء الجماعة في هذه القرية على بعضهم يملكون عشرة ملايين جنيه.. وفي الصباح الباكر يشتري كلهم العيش من خلف الله سيد الطابونة، وسيدالطابونة يشتري منهم اللحم واللبن والفول.. وحاجة نفيسة المشاطة تحصل على استحقاقها مقابل «المُشاط» من نسوان الحلة، وتشتري بما تحصل عليه من سيد الدكان والطابونة والطاحونة والجزارة.. وحسنين العتالي يتقاضى أجراً على العِتالة من سيد الدكان وللجزارة ومن المشاطة ويشتري بما يحصل عليه كل احتياجاته من الآخرين.. وعليه فإنه من ناحية اقتصادية يمكن أن نعتبر أن حلة «زقلونا» التي يسكنها الجماعة ديل لديها كل مكونات السوق الأساسية، ولديها «كتلة نقدية» تجري في أيدي السكان قيمتها عشرة ملايين.. وكل مواطن يقوم بتقديم خدماته للآخرين، وفي نفس الوقت يحصل على احتياجاته أيضاً من الآخرين.. ويظل هذا السوق مستقراً وتعتبر النقود السائلة والمتداولة بين مواطني زقلونا عبارة عن «إيصالات» للتبادل لتعبِّر عن قيمة الخدمة أو السلعة التي يقدمها البعض للآخرين.. ولكن إذا افترضنا أنه في يوم من الأيام ذاع الخبر في حلة زقلونا بأن «الفنانة» المشهورة «سوقا المطلوقة» أو الفنانة «عاشة الطاشة» سوف تقيم حفلاً غنائياً كبيراً.. وإذا افترضنا أن كل الناس يحبون هذه الفنانة وكلهم يرغبون في حضور ليلتها الساهرة وبحيث يدفع كل مواطن من سكان القرية الذين قلنا إن عددهم مائة شخص سوف يدفع مائة ألف جنيه، فإن إجمالي ما سيدفعه أهل قرية زقلونا للفنانة عاشة الطاشة سيكون عشرة ملايين جنيه.. وهذا المبلغ سوف يعاد كل السيولة المتوفرة لأهل القرية، وبعد أن تقدم الفنانة وصلاتها الغنائية فإنها سوف تغادر القرية متجهة إلى الخرطوم، لأنها أصلاً لا تسكن هذه القرية ولا تعرف منهم أحداً، وبالطبع سوف تحمل معها العشرة ملايين بتاعة الحلة وسيجد أهل القرية أنه لا توجد لديهم سيولة لكي يشتروا أو يتبادلوا الخدمات التقليدية فيما بينهم، خاصة وأن عاشة الطاشة لن ترجِّع لهم القروش التي «شالتها» ثم إنها لا تحتاج من حلتهم إلى أي خدمات أو سلع.. وهنا يمكننا أن نقول إنه حدثت مشكلة اقتصادية اسمها انعدام السيولة.. وإذا كانت عاشة الطاشة لديها حساب بالعملات الحرة أو تريد تحويل المبلغ الذي حصلت عليه من ناس زقلونا إلى حسابها خارج البلاد، فإنها بالضرورة سوف تؤدي إلى رفع قيمة الدولار.. هذا من ناحية.. ومن ناحية أُخرى فإن ناس حلة زقلونا إما أن يقوموا بتسليف بعضهم البعض عن طريق «الغايظ» أو «الكسر» أو «الملص».. وإما أن تحدث عندهم حالة من الكساد والركود الاقتصادي.. وبالطبع هذا ما حدث عندنا مؤخراً بسبب ظهور مؤسسات اقتصادية تتعامل في قطاعات تسحب وتلهف السيولة بحكم رغبة المواطنين في الخدمة التي تقدمها مثل شركات الاتصالات التي تمتص من المواطنين سيولة يومية تُقدر بحوالى خمسة وسبعين مليار جنيه، ولا تعود هذه السيولة إلى التداول اليومي، لأن شركات الاتصالات ليس لديها ما يمكن أن تشتريه من المواطنين، بل تعمل على تحويل السيولة إلى عملات حرة لتحويلها الى الخارج.. وبنفس القدر فإن ما تمتصه القطاعات العاملة في بيع السيارات واستيرادها يلعب نفس الدور الذي لعبته الفنانة عاشة الطاشة، عندما «شالت» كل السيولة والكتلة النقدية المتوفرة في حالة زقلونا و«قامت جارية»، وبالطبع سيكون الحل متوقفاً على الجهات المعنية باتخاذ القرار الاقتصادي، فإما أن تمنع عاشة الطاشة من لهف السيولة أو أن تطلب من عاشة الطاشة أن تخفض من أسعار خدماتها بما يلائم امكانات ناس حلة زقلونا، او أن تطلب منها أن تعيد استغلال هذه السيولة في نفس الحلة.. وهناك حل ثانٍ يمكن أن يقوم به أهل حلة زقلونا بأنفسهم، وهو أن يمتنعوا عن الاستماع الى عاشة الطاشة، وأن يتوقفوا عن استقبال خدماتها، أها يا أخوانا «فهمتوا الحكاية دي واللا أعيدها ليكم تاني»....