جاء في الأنباء أن المجلس القيادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم قد وافق على رفع الدعم عن المحروقات وهو ليس جهازاً تشريعياً ولا جهازاً تنفيذياً ولكنه يمكن أن يدفع توصياته لنواب حزبه عبر هيئتهم البرلمانية ويمكن أن يدفعها للتنفيذيين المنتسبين إليه لتمريرها عبر الأجهزة المختصة وفي كل الأحوال فإن الحكومة لم تُصدر حتى الآن قراراً رسمياً يقضي برفع الدعم عن المحروقات ومؤكد أن هذا إذا حدث سيترتب عليه ارتفاع كل السلع ويؤدي لزيادة الطين بله لأن الأسعار حتى بوضعها الراهن قبل رفع الدعم قد بلغت ذروتها القصوى وعمّت الفوضى في الأسواق دون مساءلة لأحد إذ لا يوجد حسيب أو رقيب بدعوى تحرير الأسعار ويترتب على رفع الدعم عن المحروقات ارتفاع أسعارها وقد يؤدي هذا لإضعاف الموسم الزراعي القادم إذ إن سعر حرث الفدان الواحد في مرحلة التحضير الآنية قد بلغ عشرين جنيهاً وأن الحرث بالدكسي بلغ خمسين جنيهاً للفدان الواحد وبُحت أصوات المزارعين المنتجين من الشكوى وذهبت كل صرخاتهم أدراج الرياح، وإذا حدثت زيادة جديدة في أسعار المحروقات فإن هذا يعني ارتفاع أسعار الحرث المشار إليها آنفاً ونخشى أن يؤدي هذا لهجر الكثيرين للزراعة أو إهمالهم لها. وأن الموازنة العامة لهذا العام تشهد عجزاً وفرقاً بين التقديرات وبين الإيرادات الفعلية ومن بين أسباب هذا العجز عدم أخذ حكومة السودان لاسحقاقاتها من بترول الجنوب لقاء نقله عبر أنابيبها ومصافيها، وواجه الشمال أيضاً حرباً اقتصادية منظمة بعد الانفصال وارتفع سعر الدولار ارتفاعاً جنونياً في السوق الأسود. ونتج عن ذلك اتخاذ القرارات الأخيرة بالنسبة لسعر الدولار.. وأن الوطن مجابه الآن بمعضلة اقتصادية حقيقية وفي نفس الوقت فإنه مجابه بضغوط خارجية ومن الواضح أن جُل القوى الأجنبية تؤازر الطرف الآخر وتريد ان تفرض إملاءاتها على حكومة السودان مع الضغط من وراء ستار في جولات المفاوضات لفرض رؤاها وعلى النظام الحاكم ان يتسم في هذه الظروف الحرجة باقصى درجات الصلابة وعدم الانحناء «لاتكن ليناً فتعصر ولا يابساً فتكسر» وهم يدركون صعوبة الظروف المالية والاقصادية التي يمر بها ولذلك يسعون لكسره وعصره . وهذه المرحلة تقتضي وحدة وطنية صلبة من أجل الوطن الغالي ولكن المؤسف ان بعض النافذين الذين يفكرون بعقلية ماري انطوانيت يسعون دون وعي منهم لاسفزاز الشعب السوداني وتفجير غضبه الكامن باتخاذ قرار انتحاري ليؤدي لمزيد من الغلاء الطاحن وربما يؤدي هذا لانفجار شعبي تلقائي والنار من مستصغر الشرر ولكن لا يمكن ان يصبح الشعب هو الحيطة القصيرة دائماً في ظل هذا العهد ولا بد من التفكير في بدائل اخرى لسد العجز. وان الشعب السوداني ظل يسمع بأذنيه ويرى بعينيه طيلة ثلاثة وعشرين عاماً الترف المبالغ فيه والصرف العشوائي وعدم الانضباط المالي وعدم السيطرة الكاملة لوزارة المالية على المال العام واصبحت احياناً الشعارات الإسلامية العظيمة المرفوعة مجرد وسيلة لدغدغة العواطف وللكسب السياسي واختل ميزان العدالة الاجتماعية. وقد ترهل الجهاز التنفيذي وكثرت الوظائف الدستورية حى اصبح عددها لا يُحصى «وزراء ووزراء دولة وولاة ووزراء ولائيين ومعتمدين ومستشارين رئاسيين وولائيين وفي جُل الوزارات وخبراء وطنيين ومسميات اخرى ما أنزل الله بها من سلطان» واستنزفت عُملات حُرة لا تُحصى في السنين الفائته في الوفود «الطالعة ونازلة» بل قد يصطحب بعضهم معه حاشية من العاملين بمكتبه دون ان يجني الوطن فائدة تُذكر. ولا أحسب أن كل الكرة الأرضية فيها دولة تتكون حكومتها من اكثر من ثمانين وزيراً مع جيوش جرارة من المستشاريين والدستوريين في الولايات وعلى سبيل المثال ذكر مؤخراً ان احدى الولايات عُين فيها حوالى خمسين دستورياً فماذا يفعل هؤلاء؟ وان احدى الولايات فيها اكثر من ثلاثين معتمداً بالمحليات والرئاسة. وفي العهد العسكري النوفمبري كان المجلس الاعلى للقوات المسلحة برئاسة الفريق ابراهيم عبود يضم سبعة جنرالات فقط وبجانب مهامهم السيادية كان كل منهم يشغل موقعاً وزارياً بالإضافة لعدد مماثل من المدنيين الذين يشغلون بقية الوزارات وكانت الخدمة المدنية راسخة لم تسيس وعلى كل مديرية عُين حاكم عسكري يوجد بجانبه مدير مديرية هو الذي يقود العمل التنفيذي والاداري ويرأس مجلس المديرية ولذاك العهد ايجابياته وسلبياته ولا نريد الخوض فيها في هذا الحيز ولكن الذي يهمنا هنا هو ان عدد الدستوريين كان ضئيلاً وبمخصصات محدودة ولم يكن راتب الوزير يزيد على راتب الوكيل الا بضعة جُنيهات وخلاصة القول ان السودان يشهد الآن ترهلاً وتورماً في المواقع الدستورية «ولا تحسب الشحم في من شحمه ورم»، وبداية العلاج الناجع لسد الفجوة في الميزانية لا تكون بزيادة معاناة الجماهير العريضة المغلوبة على امرها ولكنه يبدأ بترشيد الإنفاق وإيقاف الصرف البذخي وإعادة هيكلة أجهزة الحكم الاتحادية والولائية وتقليصها وإزالة الأورام الزائدة فيها. وان الوطن يجابه تحديات ومعضلات كثيرة والتيار الإصلاحي العريض ينادي باصلاح اعوجاج المسيرة والبلاد لا تحتمل اي انفجار عشوائي يقودها لمصير مجهول ونرجو ان تتضافر جهود الجميع لاجتياز هذا المنعطف الخطير ولذلك فإن الجميع ضد الانتهازية والانتهازيين وضد بعض المترفين البعيدين عن هموم الجماهير الحقيقية ولكنهم يريدون استثمار المعاناة ويتمنون زيادتها ليركبوا على ظهره بلا وجه حق ودون تفويض شعبي في مرحلة تيه لا يتمناها أحد. وان الوطن مواجه بعنجهية استعمارية وحقارة أجنبية ينبغي ان يقاومها الجميع ونأمل ألا تكون بعض القرارات الداخلية العرجاء هي هدية في صحن من ذهب للقوى الأجنبية التي تسعى لفرض هيمنتها الرعناء وقراراتها الهوجاء!!