رغم أن الخريف بدأ مبكراً في القضارف ما يبشر بموسم زراعي طيب مثلما استبشر المواطن هناك بعهد جديد بعد استقالة الوالي الأسبق المثير للجدل كرم الله عباس، إلا أن سخونة الأجواء السياسية بجامعة القضارف واشتداد الحملات الانتخابية بين الطوائف السياسية بالجامعة وكأنها انتخابات الرئاسة المصرية جعلت الجميع ينتبه إلى الانتخابات المرتقبة لمنصب الوالي بعد أن غيّر كرم الله خارطة المسرح السياسي بالولاية.. الاستعدادات بشأن انتخابات جامعة القضارف والتي يسيطر الإسلاميون على اتحادها لثماني سنوات على التوالي كانت بمثابة إحماء انتخابي مبكر لانتخابات منصب الوالي، إذ حشدت المعارضة كوادرها خاصة من جامعتي البحر الأحمر وسنار «الجامعتان شهدتا خسارة الوطني لاتحاديهما» فضلاً عن كوادر من الخرطوم، وقد تابعت «الإنتباهة» نهاية الأسبوع قبل الماضي خطاب نهاية دورة اتحاد الجامعة الذي تمت إجازته رغم محاولات المعارضة عرقلة الأوضاع وكان ذلك مؤشراً لفوز الوطني الذي كثف طلابه جهودهم لتحقيق النصر ما يعني تبييض وجه الحزب، وقد علمت «الإنتباهة» متابعة قيادات الحزب بالقضارف لأوضاع الجامعة التي ظفروا باتحادها هدوء المدينة خارج أسوار الجامعة كانت المدينة هادئة وشبابها أكثر سعادة بأوضاع الولاية الراهنة وبمتغيرات الحال الذي نجم عنه والٍ جديد للولاية هو الضو الماحي.. في قلب سوق القضارف تشكل القهاوي ساحة خصبة للنقاش السياسي والرياضي عقب صلاة الظهر وفيها تستمع لآراء جيدة عن واقع حال الولاية والسودان عامة ويقدم شباب القضارف المثقف أفكارًا جديرة بالاحترام.. استوقفتني سخرية أحدهم عندما سألته عن الوالي الأسبق كرم الله فما كان منه إلا أن قال لي وبكل هدوء: «استأذنك يا أستاذ اقرأ الكمات المكتوبة على باب القهوة» ونهضت من مكاني وطالعتها وكانت: «تمشي وتجينا» وقبل أن أهم باستفساره قال لي: «كرم الله مشى وما دايرنو يجينا».. وأيّده من كانوا جلوسًا حوله ولعل غضبة الشباب مردها أن الرجل هدد بإغلاق تلك القهاوي وتحدث عنها حديثًا غير صالح للنشر في هذه المساحة أو بشكل أدق ليس من الجيد ترديده!! المهم هناك وعي كبير من شباب القضارف بقضايا ولايتهم وبشكل عام استبشروا خيرًا بالموسم الزراعي هذا العام بعد أن هطلت الأمطار في وقت مبكر. كرم الله.. ماذا بعد الاستقالة؟ بالمقابل لا تزال هناك مجموعات تساند كرم الله وبفهم من الممكن جدًا وصفه بالقاصر ترى أن للولاية حقوقًا مُهدرة بالمركز، وما من شخص سيعيدها إلا كرم الله والذي وضع المركز الذي ظل والي القضارف المستقيل أو المجبر على الاستقالة سيان كرم الله عباس الشيخ يصوب له انتقادات لاذعة وغير مألوفة على الأقل منذ مجيء الإنقاذ وضع حداً لمغامراته التي تمكن من القول إن الرجل كان قاب قوسين أو أدنى من التمرد على المركز من خلال عدة مواقف، ووضح ذلك جلياً في آخر تصريح له عقب تسريحه وزراءه عندما هدد بتمرد أهل الولاية على المركز إذا تمادى الأخير في هدر حقوقهم. حاصل ضرب وقسمة إثارة كرم الله للجدل كانت النهاية المتوقعة وهي مغادرته سدة حكم الولاية باستقالة في جوف الليل قبلها الرئيس البشير وتم إعلانها في الساعات الأولى يوم سبت.. استقالة طوت صفحة حكم عباس والذي للمفارقة قال عقب إعلانه حل حكومته إنه لن يستقيل ولكن المهم الآن سؤال في غاية الأهمية ماذا بعد الاستقالة؟ وبشكل أكثر وضوحاً ما هي ملامح مستقبل الرجل السياسي؟ وكان ذات السؤال دائراً في مجالس المدينة سيما وأن جلوس كرم الله لفترة تجاوزت العقد بعدة سنوات على كرسي الرجل الأول في الجهاز التشريعي جعلته يفكر في الكرسي الأول في الجهاز التنفيذي بدليل أنه أدار حملة داخل صفوف الوطني ليدخل دائرة الترشيح ضمن ما عُرف بمنظومة الخمسة شخصيات والتي تختار منها قيادة الوطني شخصية تخوض بها انتخابات منصب الوالي ما يعني أن للرجل طموحًا سياسيًا مشروعًا بكل حال نجح فيه.. والمتتبع لفكرة كرم الله في ذلك أنه خاض حربًا شرسة مع عدد من الولاة السابقين يمكن أن تفسر كونه يرى نفسه ليس بأقل منهم والتأكيد على ذلك تصريحاته المتكررة حول عدم وجود فارق بينه وبين قيادات المركز وبالتالي هذه الشواهد تشي بأن الرجل من الصعب عليه القبول بنتيجة الاستقالة «المكرهة» التي تشير كونها المحطة النهائية لحياته السياسية. لكن مع ذلك يبقى هناك فارق شاسع ما بين كرم الله قبل الولاية والرجل بعد الاستقالة، وأذكر عند مؤتمر حزبه لاختيار الخمسة كان الرجل واثقًا بفوزه بل سهرت القضارف حتى الصباح باحتلاله المرتبة الأولى ولعله القيادي الوحيد في الولايات الذي أحرز أصواتًا تفوق أصوات الوالي إذ أحرز كل الولاة المرتبة الأولى بين الخمسة.. بينما بعد إقالته لم تأبه المدينة كثيرًا لمغادرته كرسي الحكم، وقد خرجت مجموعات قليلة لاستقباله بعكس ما كان يتوقع الكثيرون.. قيادي بوطني القضارف أبدى دهشته من الخروج الهادئ للرجل وعدم اكتراث أهل الولاية لاستقالته بينما قال آخر ساخرًا لم يحزن على مغادرة كرم الله سوى علي حمام من الشخصيات الشعبية البسيطة هيئةً ووزنًا والمعروفة لمجتمع القضارف ومقرب لكرم الله، وقد رُزق بمولود ذكر قبل فترة بسيطة من استقالة كرم عباس وفاجأ الجميع بأن أطلق على مولوده اسم «كرم الله عباس الشيخ» وذكّرنا بنجل الشاعر الراحل أبو آمنة حامد الذي سمِّي «جمال عبد الناصر حسين» تيمنًا بالرئيس المصري الراحل.. وبشكل عام خفت بريق عباس ربما لعدم تحقيقه إنجازات واضحة حيث قال لي مواطن: ابحث في كل أنحاء الولاية فلن تجد لوحة كُتب عليها المشروع الفلاني تم افتتاحه على يد الوالي كرم الله. ومع ذلك فإن كرم الله من الممكن أن يسلك عدة طرق الأولى هي تأسيسه لحزب سياسي وذلك أن اختلافه مع قيادة الدولة والحزب ليس مسألة عدم توفر مال لولايته كما يدّعي بل اختلاف حول منهج وفكرة؛فضلاً عن أن المركز ينظر لبعض الأمور نظرة براغماتية بينما عباس نفسه قصير عند تعاطيه مع كثير من القضايا، كما أن المركز لا يمنح المال بطريقة «سبهللية» بل عبر مشروعات مدروسة ومكتوبة ومقدَّمة عبر وقت كافٍ.. قد ينجح كرم الله في تأسيس حزب خاصة أنه يتمتع برغد العيش ويعد من أثرياء القضارف وله مناصرون خاصة في مناطق طرفية مثل باسندة التي اعتكف فيها لفترة عقب استقالته فضلاً عن إمكانية أن يجد مساندة من البعض مثل المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي وذيول الحركة الشعبية ليس حبًا في الرجل بل نكاية في المؤتمر الوطني سيما وأنه ظل يغازلهم بإعلانه التعامل معهم رغم أنف المركز كما من الممكن أن يستثمر الشعبي في الأزمة ويحاول ضم الرجل إلى صفوفه من خلال احتفال ضخم سيما وأن عباس من المحبين للترابي وسبق أن أعلن مرارًا رغبته في لمّ شمل الوطني والشعبي. خيار الشعبي وليس الشعب هذه الاحتمالات دفعتني للالتقاء بالأمين العام للمؤتمر الشعبي بولاية القضارف عبد القادر محمود سليمان واستفساره عن الأمر حيث لم يستبعد أن يكون كرم الله خيار حزبه، وبشأن أن الأمر لا يعدو أن يكون خطة لإسقاط الوطني أجاب: «ربما يكون كرم الله لديه جديد يمكن أن يقدمه».. بينما أكد والي القضارف الضو الماحي في حديثه ل «الإنتباهة» أن فوز كرم الله تحقّق من خلال الحزب، وأشار إلى أن كرم الله لا يزال قياديًا بالحزب واستبعد ترشحه مستقلاً حسبما روّج البعض ولفت الانتباه إلى أن كل من ترشح بعيدًا عن الحزب مُني بخسارة.