يكثر الحديث في هذه الأيام عن تخفيض أعداد الدستوريين وتخفيض مخصصاتهم، ومما قرأنا في الأخبار في الأيام الماضية أن الدستوريين يبلغ عددهم «178» وزيراً ووزير دولة بالمركز يشملون أصحاب وظائف قيادية يحملون درجة وزير الدولة، و«650» دستورياً بالولايات، وذلك لمواجهة الحالة الاقتصادية وإجراءاتها المتوقعة في الأيام القادمة، وهذه فرصة لأن يتنافس المتنافسون من أصحاب هذه المناصب وأن يحرصوا بأنفسهم ويبادروا بأنفسهم لطلب إعفائهم.. أو أن يخفضوا بأنفسهم مخصصاتهم قبل أن يتم تخفيضها دون علمهم.. إن من محبتي الخير للناس ومنهم هؤلاء الإخوة المسؤولين كمحبته لنفسي هي ما يجعلني أسطر هذه الكلمات.. وأرجو أن نرى هذه الأمنية واقعاً تتناقله الصحف ووسائل الإعلام في الأيام القادمة.. وأتمنى أن لا نرى عكس ذلك، فأرجو أن لا يكون قد بدأ بعض المسؤولين تحركاتهم واتصالاتهم ولقاءاتهم حتى لا يشملهم «التخفيض»!! أتمنى أن لا نرى حرصاً ظاهراً على التمسك والتشبث بهذه الوظائف، ومن المعلوم أن الحرص قد يكون بلسان الحال وقد يكون بلسان المقال!! فقد يظهر البعض نفسه في الأيام القادمة وكأنه هو الذي سيكون الأهم من بين الباقين!! حتى لا يكون في جملة «المخرجين»!! وقد يجتهد البعض ليزين أن بفقده ستخسر البلاد ويهلك العباد!!! إن مما يجب أن يدركه هؤلاء المسؤولين قبل غيرهم أن «المناصب» وسائل لا غايات!! بل هي «تكليف مخيف وليست بتشريف».. وقد نشرت بهذه الصحيفة سابقاً مقالاً بهذا العنوان، فهي وسائل لتحقيق غايات، وبهذه الوسائل تحفظ الضرورات من دين وأنفس وعقول وأعراض وأموال. إنكم أيها المسؤولون في الدولة من وزراء ومستشارين ووزراء دولة وولاة بتقلدكم لهذه المناصب، فإنه قد وجب عليكم أداء حقوق كثيرة وعظيمة، أوجبتم على أنفسكم بقبول التكليف بل والقسم الذي أقسمتم به عند تكليفكم بها القيام بما كُلِّفتم به على الوجه الذي يجب، دون التقصير فيه وكان من الواجب والفرض عليكم الحرص على السلامة من تبعات هذه المناصب ومسؤولياتها، لذا كانت أسئلة كثيرة يجب أن تكون ملازمة لكم ولا تفارقكم في الصباح أو المساء، في السر أو العلانية، منها: أن يسأل كل واحد منكم نفسه هل أدرك ما يجب عليه القيام به؟! وهل علم حدود مسؤولياته وما لا تبرأ ذمته إلا بأدائه؟! وهل أدرك ما في هذه المناصب من فتن؟! وهل اجتهد لأن يسلم من فتنها؟! وهل حقّق «العدل» في أحكامه، ودفع الظلم، وهل اجتهد غاية وسعه دون أن يفرط في مسؤولياته؟! وهل وهل وهل... وهل حمله خوفه من مسؤولياته لأن ينظر في أحوال غيره من الناس ممن هم أحق وأجدر بهذه المناصب منه ويقارن أحوالهم بحاله ليبذل مزيداً من الجهد لبراءة ذمته وإتقان عمله، وسلامة نفسه؟! وهل تدبّر كل صاحب منصب من هذه المناصب هذا الحديث العظيم وأمثاله: عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِى قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِى ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا». رواه مسلم وغيره. إن المتوقع ممن يطلع على هذا الحديث من إخواننا المسؤولين في الدولة أنه سيفرح إن وجد فرصة لأن يبتعد عن هذه المناصب ويسلم من تبعاتها وما كلف به فيها، بل ربما نشهد «تنافساً جميلاً» في البعد عنها وتزاحماً في طلب التنازل عنها!! ومن باب التعاون على البر والتقوى لنصل إلى هذه الدرجة من التنافس في الزهد والبعد عن المناصب وإظهار ذلك، أورد بعض ما ورد في معنى هذا الحديث العظيم: قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: «هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلاً لها أو كان أهلاً ولم يعدل فيها فيخزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه ويندم على ما فرط وأما من كان أهلاً للولاية وعدل فيها فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة كحديث سبعة يظلهم الله والحديث المذكور هنا عقب هذا أن المقسطين على منابر من نور وغير ذلك وإجماع المسلمين منعقد عليه ومع هذا فلكثرة الخطر فيها حذره صلى الله عليه وسلم منها وكذا حذر العلماء وامتنع منها خلائق من السلف وصبروا على الأذى حين امتنعوا» أ.ه. ورحم الله الإمام النووي فقد أجاد على عادته بهذه العبارات الموجزات، وقد نقلها عنه بعض العلماء وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري «فتح الباري». إن في هذه المناصب وأمثالها مسؤولية عظيمة لا تخفى على الصغير والكبير، خاصة في بلدنا السودان وأمثاله من البلاد التي عاشت وتعيش عقوداً من الزمان في حروب مستمرة وعدم استقرار، ونحن في بلد أحاطت وتحيط به الفتن والابتلاءات والمصائب في الماضي والحاضر وأسأل الله أن يلطف بنا في المستقبل وأن يكون خيراً مما مضى، فالمسؤولية عظيمة، وقد تحملتم يا أصحاب هذه الوظائف حملاً ثقيلاً فانظروا بصدق في أنفسكم وفي مسؤولياتكم واستصحبوا معكم سؤال الله تعالى، وما يترتب على تفريطكم في مسؤولياتكم في العاجل والآجل، فإن عدم أداء الحقوق لأهلها وعدم أداء المسؤوليات على وجهها، والظلم والتفريط في حقوق العباد، وإن أخذ المال بغير حقه، أو التقصير في القيام بالواجبات وغيرها من الأمور هي من أسباب عقوبات ربانية عاجلة أو آجلة، وإن الله جل وعلا سميع بصير قادر لا تخفى عليه خافية. «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» هذا حديث مشهور رواه البخاري ومسلم، يؤكد المسؤولية التي خاف منها الصالحون فأبوا وأعرضوا عن المناصب فقد دوّن في كتب أئمتنا أخبار رفض كثير من العلماء والعباد والصالحين للقضاء والإفتاء، وإن بعضهم قد عُذّب بسبب عدم موافقته على التعيين في مثل هذه المناصب!! ومن عجائب ما رأينا في هذا الزمان أن يقيم البعض في زماننا هذا أمكنة وأزمنة خاصة لتلقي المهنئين له بتقلده منصباً من هذه المناصب!! وربما عاتب من لم يهنئه على ذلك!!! إن عظم وخطورة المسؤولية في هذه المناصب جعلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة لظننت أن الله تعالى سائلي عنها يوم القيامة» رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وهو حسن لغيره. وهذا شأن عمر الخليفة الراشد الإمام العادل الذي نزل القرآن موافقاً لما اقترحه وقاله في عدة مواضع!! وبنفس المنوال ليقول وزير الصحة ووزير الداخلية ووزير الدفاع ووزير التعليم العام والعالي ووزير التجارة ووزير الدولة ووالي الولاية... وغيرهم ليقولوا لأنفسهم ما قال عمر في هذا الأثر العظيم وليعدوا للسؤال جواباً صواباً. ولا يخفى أن من أخذها بحقها وأدى حق الله فيها فإن أجره سيكون عظيماً وعاقبته كريمة، وقد طلبها يوسف عليه السلام لما علم أنه لن يقوم بها على وجهها أحد غيره، فليستمر فيها من علم أنه لا محيص عنها، ولا تبرأ الذمة إلا بقيامه بها، حرصاً على المصلحة العامة، لا مصلحة فلان أو الحزب الفلاني فإن المسؤول وغيره سيلقون الله فرادى، ويبعثون فرادى «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ» «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا»«لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا» «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا»، وقد يكون واجباً على أمثال هؤلاء القيام بها ويأثمون إن تركوها، وحاله يجب أن يكون مشفقاً على نفسه من التقصير فيها، فهذه الوظائف وسائل لا غايات، والموفق من وفقه الله..