في تمام التاسعة مساءً الأحد قبل الماضي وصل إلى الخرطوم رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي والتقى الرئيس البشير في إطار وساطة قام بها الأول لنزع فتيل الأزمة في جنوب كردفان. وذلك بعد أن التقى رئيس الحركة الشعبية مالك عقار والحلو وعرمان..
وقد التقي ثلاثتهم عقار والحلو وعرمان رئيس الوزراء الإثيوبي بدعوة قدَّمها الرئيس الإثيوبي قبل عشرة أيام من موعد اللقاء، وتناول اللقاء العرض الذي قدَّمه ملس زيناوي بالتنسيق مع أمبيكي بمرافقة عقار للخرطوم لعقد لقاء مشترك مع البشير. زيارة عطا السرية لأديس لكن الأحداث انفجرت على نحو مثير وهاجمت قوات عقار القوات المسلحة في الدمازين وتكشفت خطة التآمر من جانب الحركة ودور قطاع الشمال في المخطط... وبعد «24» ساعة من الهجوم جاءت زيارة مدير جهاز الأمن الفريق محمد عطا إلى أديس أبابا وتسليمه زناوي رسالة من البشير، ولما كانت العلاقات السودانية الإثيوبية يشوبها بعض الغموض لا هي علاقات متينة مائة بالمائة ولاهي متوترة توترًا ظاهرًا كان لابد من قراءة الزيارة والرسالة في اتجاهين مختلفين: فإما أن تكون تحذيرية وهذا الاتجاه يستند إلى مخاوف ومحاذير تم تداولها على المستوى الرسمي سرًا وعلى المستوى الإعلامي على نحو ظاهر، وإما أن تكون ذات مطلوبات قائمة على أجندة واستحقاقات إستراتيجية بين البلدين، وسنقف على الاتجاهين من خلال هذا العرض التحليلي.. لذلك يبرز السؤال الموضوعي: هل ذهب عطا محذرًا أديس وبين يديه رسالة من البشير شديدة اللهجة محذِّرة من مغبة الانزلاق في مخطط الحركة ومغامرة عقار ودعمها أم ذهب عطا مذكِّرًا باتفاقيات والتزامات قطعتها أديس على نفسها تجاه حماية الأمن السوداني مقابل مصالح اقتصادية يلتزم بها السودان تجاه إثيوبيا كما سيأتي ذكرها في سياق هذا التحليل. أطماع إثيوبية لاشك أن لإثيوبيا حتى وقت قريب أطماع لا تخفى على أحد في الاستيلاء على أراضٍ زراعية شرق نهر العطبراوي أو في دعم حركات مناوئة للنظام في الخرطوم تُضعف الجيش السوداني فتتاح لها السيطرة على المساحات الزراعية الخصبة بشرق السودان والتأثير على القبائل السودانية المتاخمة لها على الحدود بسبب ضعف الحكومة بالخرطوم، وقد دخلت في حرب مع السودان لأجندة معروفة، ويعزِّز هذه الروح أيضًا الوثيقة التي سرَّبها موقع ويكليكس والتي تقول إن رئيس الوزراء الإثيوبى ملس زيناوى كان قد أخبر الإدارة الأمريكية أن إسقاط الحكومة السودانية السيناريو المثالي بالنسبة لواشنطن، وقد كشفت المذكرة المسربة المناقشات التفصيلية التي جرت بين ميلس زيناوى والقائم بأعمال مساعدة وزيرة الدولة للشؤون الإفريقية فيل كارتر بحضور مدير مجموعة برامج السودان بوزارة الخارجية الأمريكية تيم شورتلي فى 30 يناير 2009م، وقال زيناوي للوفد الأمريكي: لو كنت الولاياتالمتحدة لاتخذتُ أحد خيارين: أولهما إزالة نظام البشير، ولما كان هذا الخيار مستحلاً. ومن ثم وضع معايير واضحة للإجراءات المتوقعة من الحكومة السودانية بشأن دارفور وجنوب السودان. وهناك علامات تشير إلى أن العلاقات بين أديس أباباوالخرطوم ليست سلسة كما يبدو بعد أن نشر المركز السوداني للخدمات الصحفية تقريرًا انتقد فيه نشر القوات الإثيوبية في أبيي مشيرًا إلى مخاوف أمنية وطنية وعلاقة أديس أبابا مع إسرائيل، علاوة على ذلك أفاد موقع مقره بباريس إلى مخاوف أديس أبابا بشأن المعلومات التي نُشرت بخصوص اجتماعات بين جهاز المخابرات والأمن الوطني مع ضباط وأفراد من جبهة تحرير أورومو وقادة حزب الشعب الثوري الإثيوبي، وذكر التقرير أن الخرطوم قد أغضبها الدعم العسكري الذي قدمته إثيوبيا لجوبا بحجة أنه قد وقع في أيدي الحركة الشعبية قطاع الشمال. المصالح الحيوية وفي مقابل تلك المخاوف والمحاذير ينظر كثيرٌ من المراقبين إلى إثيوبيا باعتبارها وسيطًا نزيهًا من قبل الأطراف السودانية، إذ استضافت العديد من الاجتماعات بين الشمال والجنوب على مدى العامين الماضيين، كما وافقت أخيراً على نشر قواتها بوصفها جزءاً من بعثة الأممالمتحدة لحفظ السلام فى منطقة أبيي. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: ما الذي جعل إثيوبيا تنتقل من خانة العدو للشريك الإستراتيجي؟. لقد اتجهت الإرادة السياسية لكلا القطرين في اتجاه التعاون الإستراتيجي، وفي لحظة حاسمة ظهرت ملامح صداقة شخصية بين الرئيسين عمر البشير وملس زيناوي رجحت اتجاه التعاون الإستراتيجي بدلاً من الاحتراب الظاهر والخفي. في هذا يقول المحلل السياسي الدكتور عادل عبد العزيز إن الاقتصاد برز أهم محور من محاور التعاون الإستراتيجي بين القطرين، وكانت البداية الطريق البري الرابط بين القطرين «القضارف دوكة القلابات». وتوالت أوجه التعاون بعدها بتوقيع اتفاقية استخدام ميناء بورتسودان بمزايا تفضيلية لإثيوبيا، واتفاقية الربط الكهربائي، واتفاقية الاتصالات عبر المايكرويف ثم الألياف الضوئية، واتفاقية الإمداد البترولي حيث يُغطي السودان حالياً حاجة إثيوبيا من البنزين بتصدير بنزين من مصفاة الخرطوم يعبر براً لإثيوبيا بما قيمته عشرة ملايين دولار شهرياً. وساطة مدفوعة الثمن على ضوء هذا التحليل نجد أن من الطبيعي أن تدخل إثيوبيا وسيطاً في النزاع بين شمال وجنوب السودان في أبيي وغيرها من المناطق الحدودية المختلف فيها وضمان الأمن الحدودي بعمق عشرة كيلومترات في كل جانب من مصلحة إثيوبيا استمرار إمدادات النفط السوداني إلى موانئ التصدير بالبحر الأحمر لأن في هذا ضمان لاستمرار إمدادها بالبنزين من مصفاة الخرطوم. ويرى أكثر من مراقب سياسي أن حرص إثيوبيا على مصالحها الاقتصادية مع شمال السودان يدفعها إلى عدم الخوض في أية مغامرة مع مالك عقار بإيوائه أو دعمه خاصة بعد أن تبين أن الحركة بالنيل الأزرق ليست على درجة من النضج السياسي والعسكري.