لا أدري لماذا يطلُّ من وراء الغيب البعيد، وهو في رحاب الله، وجه الراحل الكبير نجم الدين أربكان، الأب الشرعي للتيار الإسلامي الحديث في تركيا، وأحد أعظم القادة الإسلاميين الذين نظروا للأفق البعيد، ورأوا أن أمة الإسلام وداره وأرضه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر؟؟ والعالم الإسلامي يتغيّر، يتجه نحو مرحلة جديدة من صنع الخالق الباريء المصور، الذي قدّر الأمور كلها بقدره وجبروته وحكمته وعظيم سلطانه. يتغيَّر عالمنا العربي والإسلامي نحو غاياته الكبرى وتحولاته العظيمة التي كنّا نراها بعيداً ويقدِّر الله لها أن تكون أقرب إلينا من حبل الوريد ومقدمها أسرع من رجوع الطرف أو أدنى من ذلك. وجه أربكان وتوقعاته تكاد تلامس الواقع أو تكون بالفعل قد لامسته، كان ينظر لمسرى هذه الروح التي تجري في الأرض الإسلامية والمؤامرات التي تحاك ضدها، بأنها أشدّ لحظات الليل حلكة وظلمة التي يعقبها لا محالة الفجر بضوئه الساطع ونوره اليقين. بذر الشهيد حسن البنّا البذرة.. فنبتت شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وغرس أربكان الشجرة فآتت أكلها بإذن ربها. وزرع عز الدين القسّام وأحمد يسن النبتة فقوي البرعم وعلا.. وهكذا.. في كل مكان من العالم الإسلامي.. تنداح الثورات الإسلامية وتخفق رايات وبيارق هذا التيار الثوري الصامد والصابر والمثابر.. ها هو القِطاف يبرز أكثر نضارة.. في السودان وتونس والمغرب وليبيا ومصر. «ب» هذه الأمة جسد واحد، وروح واحدة، من طنجة إلى جاكرتا كما يقول حسين خوجلي، يحركهم إحساس متجانس ومتحد أينما كانوا حتى أولئك المبثوثين كالهواء النقي في أصقاع العالم وعرصاته وفجواته وبين ثنايا العالم الراغب في العيش داخل شرنقة الجاهلية الجديدة ووحل المادية الجوفاء وفي كل مكان، والأمة الإسلامية هي التي تهب النور وتعيش فيه وتنشر الهداية وتعيش بها، وقناديلها المضيئة في تزاحم الراهن المعيش في القرن الحادي والعشرين والقرن المنصرم تنبثق كالينابيع العظيمة تروي عطش القلوب وظمأ الأرواح، وأجيالها هم اليوم وغداً، من يملكون جوهرة الأمل ويحملون مشاعل الفجر الجديد. من هؤلاء الراحل الكبير البروفيسور نجم الدين أربكان.. وقف الرجل ويداه مشدودتان إلى حبل طويل.. طويل.. طويل، يثبِّت قدميه على حجرين راسخين هما تاريخ تركيا العثمانية، لينتشل هذا البلد ومن ورائه العالم الإسلامي من قاع بئر العلمانية الذي سقطت فيه منذ سقوط دولة الخلافة في تريكا بقيادة الذئب الأغبر مصطفى كمال أتاتورك. وأربكان يجب النظر إليه ليس كقائد وحسب ولا كزعيم وأب شرعي للبعث الإسلامي الكبير الذي هبّ على تركيا فأعادها إلى الجادة، إنما يتوجّب معرفته والنظر إليه كمرحلة تاريخية مهمة ونفحة ربانية لتغيير مسار التاريخ الحديث في العالم الإسلامي، فحياته كلها كانت مكرّسة لهدف واحد هو إزالة سحب الظلام عن تركيا وكشط علمانيتها وفتح الطريق للعالم الإسلامي ليعود مرة أخرى لإنتاج التاريخ والمساهمة الحضارية الكبرى لإنقاذ البشرية من براثن الانجراف واللادينية التي حوّلت الحياة لشقاء مقيم بعد أن ذهبت شفافية الروح وقلّ الارتباط بالسماء.. فمن هو هذا القائد العظيم؟. «ت» بعد سنوات قلائل من سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا ودخول الجيوش بقيادة أتاتورك وتأسيس الدولة العلمانية ، ولد في قرية سينوب الواقعة على ساحل ضيِّق على البحر الأسود، في 29/10/1926، في أسرة بسيطة الحال، طفل شديد بياض البشرة المشربة بحمرة، لتشهد طفولته سنوات صعود العلمانية وغلظتها وغروب شمس الإسلام في تركيا الرسمية وأفول نجم الخلافة، كان هذا الطفل نجم الدين أربكان، الذي أراد له والده كما حدث بالفعل أن يكون النجم الهادي لشعبه وأمته لدلالة الاسم ودقة معناه. نشأ نجم الدين في الجوِّ المضطرب وتركيا تغوص بقدميها في طين العلمانية ووحولها، واختزنت ذاكرته مشاهد محزنة ومؤلمة لا يرضاها قلب مؤمن، وظل حلمه الأول والأخير أن يقاوم عملية تغريب تركيا واختطافها من محيطها وهويتها ورميها في معاطن العلمانية واشتدادات أوارها. كان نابغة منذ دراسته الأولية، وعرفت عنه توجهاته الإسلامية وتمسكه بالدين الحنيف منذ نعومة أظافره، وفي مراحل الدراسة الأولى حتى الثانوية العامة كان ملتزماً، يخشى الله ولا يبالي، وفطرته السليمة ترفض الانصياع لبريق العلمانية الزائف. «ج» حصل على درجة البكالريوس في الهندسة عام 1948م وذهب لنيل الدكتوراه من ألمانيا ونالها من جامعة آخن عام 1956م، في مجال الهندسة الميكانيكية وتخصص في المحركات، كان من ألمع مهندسي عصره وزمانه في ألمانيا وأوروبا الغربية.. وطوّر محركات الدبابات التي تعمل بمختلف أنواع الوقود، وهو باني الصناعة التركية الحديثة في مجال محركات الديزل، وهذا النبوغ أعطاه منحى آخر في حياته واستلهم من تخصصه ومجاله، رؤية مختلفة بالنظر لأوضاع العالم الإسلامي، بانياً فكرته الأساسية والمركزية، على أهمية النهضة العلمية والعملية والأخذ بأسباب العلم الحديث لينجو العالم الإسلامي كله من التخلف التنموي والصناعي والاقتصادي، داعياً لتحريك العالم الإسلامي بتناسق وترافق على طريقة المحركات، لتمضي مسيرته كلها في اتجاه واحد معاً. وبلور كل أفكاره في مسيرة الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا التي شيدها من الصفر، لكنه بنى تصورات الحركة الإسلامية على إرث كبير، ومكابدة لا تصدّق ولا تعرف اللين، خاض غمار العمل السياسي منذ خمسة عقود تقريباً وأسس حزب النظام الوطني مع أتباع الشيخ النورسي وأخذ منها رقائق المنهج التربوي الذي يزكي النفوس ويصلحها ويعدّها لمجابهة الحياة ويستسهل في سبيلها كل ثمين، وكان حزبه هو النور الساطع الأول في تركيا منذ سقوط الخلافة والحركة التحررية الإسلامية الأولى في مواجهة العلمانية، لكن الحزب حُظِر عندما شعر أرباب العلمانية بخطره، ثم أسس حزب السلامة عام1972م بعد عامين من تأسيس حزب النظام الوطني، وأحرز في الانتخابات مع حزبه أصواتاً متقدمة وشارك في الحكومات المتعاقبة، وتولى منصب رئيس الوزراء بالإنابة، وتمدد تأثيره وهو في السلطة والبرلمان والحياة السياسية وأنشأ كذلك حزب الرفاه وصار رئيساً للوزراء لأكثر من مرة.. وخاض حروباً ضروساً ضد العلمانية والماسونية ومحاربة محافلها وأوكارها وبرز عداؤه لإسرائيل ومقاطعتها، وكان ميلاد التيار الإسلامي الحركي في تركيا بداية حقيقية لانهيار العلمانية التركية المحروسة بالجيش، ولاقى أربكان أذى كثيراً في سبيل ذلك فدخل السجون والمعتقلات أكثر من مرة وأسقطت الحكومات التي ترأسها وحظر عليه ممارسة العمل السياسي في سوابق ليست من الديمقراطية في شيء وتتصادم مع مفاهيمها وحظر حزب الفضيلة الذي أسسه وأسس أخيراً حزب السعادة الذي ترأسه حتى وفاته. «ث» لأربكان رؤى متقدمة وتصورات لنهضة العالم الإسلامي، منها طرحه لفكرة السوق المشتركة و«الكومنولث الإسلامي» ونشر أفكاره في عدة إصدارات وكتب، كلها تصبُّ في تجميع قدرات العالم الإسلامي وتوحيد قوته واستنهاض مصادر المنعة فيه لمجابهة مهدداته الخارجية من العالم الغربي. ويمكن القول إن الصراع مع العلمانية في تركيا جعل أربكان في مواجهة العالم الغربي كله الذي لم يكن ولن يكون راضياً أبداً عن أي توجه يعيد تركيا لحضن الإسلام وقلاعه الحصينة، فقائد هذا التحوُّل الكبير في تريكا هو أربكان، ومعلم الكثير من التيارات الإسلامية الديمقراطية الحديثة في العالم الإسلامي، هو هذا القائد الفذُّ الذي اختاره الله إلى جواره الكريم في 27/2/2011م، والعالم العربي يفور ويمور والإسلاميون يزلزلون الأرض العربية تحت أقدام الطغاة وعملاء الغرب وإسرائيل من أشباه الرجال في النظام الرسمي العربي يتساقطون الواحد تلو الآخر إيذاناً بأوبة الأرض الإسلامية من جديد إلى رحاب الله. سيظل أربكان أحد أبرز رموز العالم الإسلامي في هذه الدورة الجديدة من التاريخ مثله مثل حسن البنا والمودودي وسيد قطب والخميني ومهاتير محمد وفتحي يكن وأبو الحسن الندوي وعلي عزت بيكوفيتش ومالكوم أكس وغيرهم، وكل الذين عملوا على بعث الأمة من سباتها العميق وتحريك طاقات العالم الإسلامي واستعادة دوره حتى يتغيّر مسار التاريخ ويكون الدين كله لله.