لقد ورثت الحركة الاسلامية تركه ثقيلة من عصر الانحطاط: جمود وعطالة في الفكر ونمط فردي قبلي ديكتاتوري من الحضارة زاده الغزو الفكري ثقلا. ورغم ذلك فقد استطاعت الحركة الاسلامية بفضل الله بعد جهاد طويل خلال ربع قرن من الزمان ان تنفض عن الاسلام غبار عصر الانحطاط وان تحرره من هيمنة ثقافة الغرب وان تقدم للامة عنه تصورا شاملا تتجاور وتتناسق فيه الجوانب السلوكية والعقائدية والاجتماعية. كما استطاعت ان تنزل بهذا التصور الشامل ساحة المعركة على المستوى الشعبي تناضل ضد الخرافة والبدع. تناضل على مستوى المراكز الثقافية التي أقطعها الغرب تلامذته فاحتكروا سلطة القيادة والتوجيه فيها. نزلت العناصر الاسلامة هذا الميدان فأقبلت خير البلاء واستطاعت بعد كفاح مرير ان تنقذ جانبا كبيرا من هذه الجيل من بين براثن الغرب وبراثن الانحطاط وتسلمت الحركة الاسلامية اليوم في أغلب الجامعات في العالم الاسلامي على المستوى الطلابي على الاقل مراكز القيادة واجتماعنا هنا في ظل هذه المؤسسة المباركة هو ثمرة لهذا الجهاد الطويل خاضته الحركة الاسلامية في السودان. ولو شئنا ان نستمر في رصد مكاسب الحركة الاسلامية المعاصرة على المستوى الفكري او مستوى الحركة لطال بنا الحديث، ويكفي لاخذ فكرة عن هذه الانجازات ان نعلم ايها الاخوة الكرام ان الخلافة العثمانية في القرن التاسع عشر استبدلت القوانين الاسلامية بقوانين غربية فيما يسمى بالتنظيمات كما فعل باي تونس نفس الشيء سنة 1964م دون ان تحرك المؤسسات الدينة ساكنا لا بسبب جبن وانما لانعدام الوعي بأن تلك القوانين تمثل جوهرا في الاسلام.اما على المستوى التعبدي الشعبي فلا تزال بعض الصور الانحطاطية قائمة في بلداننا حتى اليوم وعلى المستوى الثقافية فقد كان الخيار امام المثقفين في أوائل هذا القرن حاسما بين الاسلام والرضي بالجهل والتخلف او العلم مع ما يصحبه حتما من تحلل والحاد. المشكلة الكبرى للحركات الاسلامية قلت ان التهوين من انجازات الحركة الاسلامية خاصة من طرف هذا الجيل الذي فتح عينيه على مفاهيم اسلامية ناضجة وأساليب في التربية والتوعية وعلى جماعة اسلامية مناضلة لهو من أخطر مايمكن ان تصاب به الحركة الاسلامية ولكن على نفس المستوى فان اقبال الجموع الكبيرة عليها سيطرح امامها سؤالا هاما: ماذا ستفعل بهذه الجموع المقبلة عليها؟ كيف ستوظفها في خطة التغيير في الخطة الحضارية؟ حتى لايعدو عملها كما يقول المرحوم مالك ابن نبي وهو يتحدث عن عمل الانسان المتخلف الجمع والتكثير. ومعلوم ان أكوام من الحجارة مهما كثرت ان تصنع بناءا ما لم تدرج ضمن خطة مسبقة، ومن هنا ظل العمل الاسلامي في حالة سماها فتحي يكن حالة التكامل والتآكل: كلما ارتفع البناء قليلاً وابتهجنا بأنه اوشك ان يكتمل انهار لاول دفعة من يد قوية، بل أحيانا يسقط من تلقاء رد فعل عدم تماسكه الداخلي.ان حال العمل الاسلامي هذه يشبه حال التقنية القديمة. لقد كانت التقنية القديمة تقوم على مجرد التجربة. ان الفرق بين التقليدي والمهندس هو ان البناء التقليدي يبدأ عملية البناء وفقا لفكرة مسبقة غير مدروسة عن نوع البناء الذي يريد فان سقط البناء اعادة على نحو آخر حتى يستقر. اما مهندس البناء فيبني البيت في رأسه قبل ان يجهزه في الواقع، يبينه كفكرة ثم يجسم تلك الفكرة على الورق مقالا وفق حسابات هندسية، فاذا استقر البناء الهندسي على الورق انتقل يجسده على الواقع مستندا الى علم الهندسة. وبذلك تغدو التقنية كما هي في الواقع تطبيقا للعلم، ويوفر الانسان على نفسه جهودا كثيرة. اما النباؤون المسلمون فلا يزالون مجرد رجال تقنية وهم في أحسن أحوالهم يمارسون تجربة المحاولة والخطؤ هذا في أفضل احوالهم اما في حالات اخرى فهم على تكرار اخطائهم ماضون دائبون وذلك راجع الى العطالة التي أصابت عقل المسلم فما عاد يفقه في أبعاده ولا الواقع في معقداته ولا السبيل الى النقل الاسلام الى الواقع ولا الارتفاع بالواقع الى الاسلام. ان عقل المسلم ظل قرونا طويلة مترنحا بين سكرة نواسية وشطحة حلاجية فاذا أفاق منها عالجته بطشة حجاجية. وان آثار هذه السكرة لا تزال عالقة تغشي الابصار وتمنع الرؤية الصحيحة والتخطيط العلمي على ضوء المعطيات الواقعية. الاستراتيجية والتغيير الحضاري انه على حين حشدت كل الاطراف السياسية خطتها للتغيير بدأ الاسلاميون يكدسون ولا ينبون. انه لمكسب عظيم ان تربي الشباب الصالح في مجتمع يزخر بالاغراءات ولكن هذه التربية نفسها ينبغي ان لا تكون معزولة عن استراتيجة الحركة الاسلامية في التغيير في المجتمع. ان في جسد المجتمع كما في جسد الفرد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد كله، ولقد حدد القوميون هذه المضغة فعمدوا الى الجيش يكثفون فيه نشاطهم حتى بلغوا مراكز قيادية فيه انطلقوا منها للسيطرة على المجتمع كله. وحدد الشيوعيون هذه المضغة فانطلقوا الى النقابات خاصة وجعلوها مكانا لعملهم يجندون الطبقة العاملة ويوهنون السلطة حتى تضعف فينقضوا عليها وينقضوا على المتجتمع كله. بينما الحركة الاسلامية لم تحدد بعد هذه المضغة الاجتماعية وظلت توزع جهودها على كل المستويات فتبقى ضعيفة في كل المستويات. لا تقود أفرادها وانما تتبعهم من وراء المطلبة مثلا المنتمين اليها اختيارات وتخصصات محددة لخدمة خطتها لانها ليست لها خطة وآية ذلك ما ترى عليه الاسلاميين من اقبال على الكليات العلمية والتخصصات الطبية والهندسية، لسبب واحد هو الاغراءات المالية التي تقدمها للخريجين وتضاءلت بذلك العناصر الاسلامية في الكليات الانسانية والتخصصات العسكرية. والنتيجة ان العناصر الاسلامية آل أمرها الى ان تعمل عناصر تنفيذ نبني السدود والمشاريع الزراعية وتداوي مرضى الخصوم. ونفذت العناصر القومية والشيوعية الى مراكز القيادة السياسية والثقافية في مجتمعاتنا حتى ان الصحف الاسلامية تعاني عجزا كبيرا في المحررين ورجال الاعلام.بعد نصف قرن من العمل الاسلامي انتج رجالا صالحين ولكنهم محدودو الفعالية بل هم أعوان في ادارة الدواليب التي يعارضونها. ينجحون في عملهم المهني بقدر ما يفشلون في دعوتهم. وليست في هذا ابدا دعوة لشعارات فقدت دورها كشعار مفاصلة الجاهلية والهجرة والتكفير، وانما هذا تشخيص لواقعنا المؤلم. لقد فشل العقل المسلم في الحركة الاسلامية في فهم واقعه والتخطيط له بسبب ما ران من غبار عصر الانحطاط ومخاوف الحاضر وبسبب ردود الافعال فانفصل بذلك عن الواقع واستمر انفصال الدين عن الحياة في مجتمعاتنا وانفصال الدين عن السياسية والتأثير والمشاركة في توجيهها رغم ان الحركة الاسلامية بدأت رفض الفصل بين الدين والدولة. باختصار لا مناص للعمل الاسلامي من تنظير لاستراتيجية تخرج بالحركة والامة من الدوامة وتستجيب للتحديات الكبرى التي تواجه المنطقة. اكتفي هنا في هذه العجالة بتقديم مبادئ ضرورية في وضع هذه الاستراتيجية، هي مجرد توصيات وليست خطة، هي مجرد معطيات لابد من توفرها ووضعها في الحساب. مبادئ اساسية في استراتيجية العمل الاسلامي أولا: لابد من تحديد موقفنا من التراث، ماذا نأخذ منه وماذا نترك؟ ما هو ملزم لنا وما هو غير ملزم؟ ما هي القيم الايجابية الباقية من تراثنا لنحتفظ بها؟ وما هي القيم السلبية؟ بعيدا عن موقفي التقديس والاحتقار. ثانياً: لابد من تحديد موقفنا من الغرب. هل هو سلسلة من الاخطاء والاباطيل والارتكابات كما يجتهد الاسلاميون في تصويره وانه بين قاب قوسين او ادنى من الانهيار وكأنهم يريدون ان يبشرونا بوراثتنا له، مع انه حتى وان سقط الغرب فانه ليس بالضرورة ان نكون نحن الوارثين لانه يرث الارض اصلح من فيها. فهل نحن اصلح من فيها الآن؟ واذا كان الغرب سلسلة من الاخطاء فكيف استطاع ان يفرض هيمنته قرونا طويلة على العالم؟ هل يرتفع على الباطل بنيان؟ كلا! وهل الغرب مقابل ذلك المثل الاعلى للمدنية؟ هل هو النموذج الصالح للتطبيق في كل زمان ومكان مهما اختلفت الظروف؟ ماذا نأخذ من الغرب وماذا نترك؟ هل نستفيد ما ألح الاسلاميون على استعارة تقنياته مع رفض كل قيمه وتنظيماته ومؤسساته؟ وحتى لو كان هذا ممكنا نظريا قالوا: وممكن عمليا هل هو صالح لنا؟ أليس في تنظيمات الغرب الادارية والسياسية وعلومه الاجتماعية ما يمكن ان نحرره من اطاره المادي ونضعفه في سياق حضاري اسلامي كما فعل اسلافنا مع كثير من المعابد الفارسية والرومانية التي هدموها ولكنهم سكبوا احجارها في بناءات اخرى بعضها مساجد لا نزال نستظل بها حتى الآن. ثالثا: تجديد نظرتنا الى واقعنا بعيدا عن فكرة مسبقة. هو جاهلي ام هو اسلامي؟ والسلطة التي تحكمه كذلك وفئاته وتجمعاته السياسية والدينية: نتعاون معها ام نفاصلها؟ ما هو الحد الادنى الذي يمكننا ان نلتقي فيه مع كل التجمعات الدينية والسياسية؟ رابعا: ما هي ادارة التغيير؟ القوة والاكراه ام الحرية والاقناع؟ هل نؤيد الانقلابيين في العالم الاسلامي ام نعتبرهم غاصبين انتهازيين؟ هل نمد اليهم ايدينا اذا ما فعلوا ذلك ام نعتبر ان شر ما تبتلي به أمة على الاطلاق النظام العسكري. وان الانقلابي كل انقلابي رجل مغرور يقفز الى السلطة في حالة غفلة من الوعي من الشعب فيستبد بالامر دون الناس جميعا، ويحيط نفسه بكل منافق لئيم. يصفقون له حتى يخيل اليه انه آتي بما لم يأت به الاوائل وان الدهر لم يجد بمثله. ويعتبر نفسه الزعيم المنقذ، بل حكيما من الحكماء. بل حكم بين الحكماء. ام نعتبر ان الشعب بعد الله هو السلطة العليا في المجتمع فلا حق لاحد في ان يكون وصيا عليه لانه ليس طفلا ولا سفيها بل هو خليفة الله في أرضه مصرين على ان الجهاد من اجل الحرية هو جهاد من أجل الاسلام. وان من حق كل التجمعات السياسية ان تتكتل لاستعادة الحرية المغتصبة. المؤودة في العالم الاسلامي؟ اننا ينبغي ان نرفض الديكتاتورية في كل أشكالها ولو مارسها مسلم يدعي انه يريد ان يحمل الناس على الاسلام. اذ قد أباها الله حتى على انبيائه، فكيف نجيزها نحن للعساكر المغرورين؟ «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». فاذا تحقق لنا نظام يعترف بالحريات العامة فينبغي على الحركة الاسلامية ان تمارس حقها كطرف سياسي معرتفة بغيرها من الاطراف السياسية الاخرى مقدمة اختياراتها للنموذج الاجتماعي الذي تريد. فتخوض المعارك الانتخابية وتضع مواطن أقدام لها في البرلمان ومؤسسات المجتمع كالبلديات وتشارك في الحكم ولو جزئيا لتدريب أفرادها على ادارة المؤسسات وعلى قيادة الجماهير وتعبئتها وتوعيتها بأهداف الحركة الاسلامية. اذ المجتمع الاسلامي لم ينزل من السماء مكتسلا ولا سقط في يوم انما بني حجرا حجرا وسقط حجرا حجرا. هكذا اعادة البناء. وفي هذه الحالة اذ تعترف الحركة الاسلامية بالشرعية القانونية للدولة على اعتبار انها مختارة من الشعب فانها ما دامت هذه الدولة لاتحكم بالاسلام لا نعترف لها بالشرعية الدينية حتى يكون الدين هو قاعدة المجتمع والتشريع وهنا ينبغي الحذر من ان يظن الشعن ان السلطة غدت اسلامية لمجرد مشاركة بعض الاسلاميين في أجهزتها.