السودان، كغيره من دول العالم الثالث، تعرض لموجة من هجرة العقول لدوافع اقتصادية وسياسية وعلمية فتفرق السودانيون في مشارق الأرض ومغاربها حتى بلغوا أمريكا الشمالية وأوروبا، ناهيك عن دول الجوار الإفريقي ومنطقة الخليج التي استقبلت لفيفاً من العلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والمعلمين وغيرهم من الخبرات الفنية والهندسية والمهنية والإدارية وما من عمل ناجح هنا إلا وكان وراءه سوداني يعمل بكفاءة وإخلاص. ولذلك خلت البلاد و حُرِمتْ من كثيرٍ من المختصين وانعكس ذلك سلباً على المستوى العلمي لخريجي الجامعات والكليات والمعاهد العليا، وتدنى مستوى الخدمة المدنية. في المقابل اكتسب هؤلاء النفر قدراً كبيراً من المعرفة والخبرة التي من شأنها أن تسهم في نهضة البلاد وتنميتها إذا قدّر لها أن تجد الفرصة والظروف المناسبة. لقد آن الأوان لكي تستقطب الدولة هؤلاء الأشخاص وتهيئ لهم المناخ العلمي والعملي من أجل الاستفادة من خبراتهم ومعرفتهم. وبنظرة سريعة يمكننا أن نجد أمثالاً لعباقرة سودانيين ذاع صيتُهم منهم الأطباء وأساتذة الجامعات والمخترعون. حتى الراعي السوداني صار هو المفضل في بوادي الخليج وقد استطاع المهندسون الزراعيون السودانيون تعمير الصحراء حتى أخرجت الخضر والفواكه والثمار والقمح عندما توفرت لهم الآلات والمعينات الأخرى التي تمكنهم من القيام بعملهم فأجادوا حتى شهد لهم الآخرون وأقروا بتفوقهم. وإذا توجهنا إلى أوروبا لسمعنا القصص المذهل عن تميز الطبيب السوداني وهنالك أمثلة كثيرة في مجال التخطيط والإدارة. بعض الأشخاص لم يكتفوا فقط باكتساب المعرفة والخبرة العملية بل استخدموا ذلك ليلجوا إلى مجال الاختراع والابتكار حتى حصلوا على براءات اختراع وسجلوها في كثير من بلدان العالم التي تحتفي بالمفكرين وتحفظ لهم حقوقهم ومكانتهم العلمية. واليوم نقدم نموذجاً لهذه الفئة من السودانيين الذين نالوا حظاً من الشهرة الفنية التي شهد لها العلماء وأصحاب الاختصاص في الأعمال الفنية والتقنية. ذلكم هو المهندس السوداني أبو القاسم أحمد عبد القادر وهو رجل مختص درس في المدارس الصناعية بالسودان وتخرج في جامعة السودان للعلوم والتقنية أو الكلية المهنية سابقاً ثم دلف للعمل في التدريب والتطوير الفني والإدارة والإشراف فعمل لدى شركة الهوندا في السعودية والناغي وكيل اللاندروفر والهيونداي ونال شهادات من المعاهد اليابانية والكورية في تخصصه. ولكن ما يميز أبا القاسم عن غيره هو اختراعاته العديدة التي أكسبته احترام وتقدير كل الذين عرفوه أو تعاملوا معه وهو حائز على براءات اختراع من الصين وألمانيا وبلجيكا وغيرها من الدول. ومن أهم ما صنع المهندس والمخترع أبو القاسم هو سيارته التي أطلق عليها اسم «المهيرة» التي يمكن أن يستخدمها ذوو الحاجات الخاصة وهي تمتاز بحجمها الصغير وتكلفتها المنخفضة إذ لم تتجاوز ثمانية ألاف ريال سعودي. وبما أن هذا المهندس قد نشأ في البيئة السودانية البسيطة فقد أفرد لها اختراعين هما في غاية الطرافة حيث توصل إلى تصنيع «مفراكة» آلية تعمل بالكهرباء يمكن أن تستخدم في الولائم الكبيرة أو التجمعات السكنية التي تضم أعداداً كبيرة أو حتى من قبل المطاعم السودانية الكبيرة. ولم ينس أبو القاسم بنات حواء فأخرج لهن «حنانة» آلية تعمل يدوياً وكهربائياً وهو بذلك يعتبر قد أسهم في تطوير التراث السوداني لأن هذه «الحنانة» تستطيع رسم أدق وأجمل التشكيلات والرسوم التي تفضلها المرأة السودانية لرسم الحنّاء. وبحكم تخصصه الهندسي استطاع أبو القاسم أن يقدم للمهندسين وطلاب الهندسة مجموعة هندسية أطلق عليها «القلم الهندسي» وهو وحدة متكاملة تشمل قلماً وفرجالاً ومنقلة ومسطرة ومساحة أي كل ما يحتاج إليه المهندس من أجل القيام بعمله وتنفيذ المخططات والرسوم الهندسية وهي مع ذلك خفيفة الوزن وقليلة التكلفة. ولعل من أميز مخترعاته ذلك القطار المصنوع من مادة الفايبرقلاس للاستخدام في حدائق الأطفال وقد استخدم فعلاً في أحد مراكز الترفيه في مدينة جدة وأثبت فعالية وكفاءة عالية حتى كان محط أنظار الزوار ومرتادي ذلك الموقع. وفي مجال آخر توصل هذا الشاب السوداني العبقري إلى تحسين المظلة التي يستخدمها حجاج بيت الله الحرام والمعتمرون وأدخل عليها مروحة تعمل بالطاقة الشمسية وهي بذلك تخفف من ضربات الشمس في موسم الحج ولأجل ذلك كرمته وزارة الصناعة السعودية. المهندس أبو القاسم رجل منظم ودقيق يحتفظ بملف شخصي يحوي وصفاً دقيقاً وصوراً لكل مخترعاته المتنوعة؛ إضافة إلى أنه رجل طموح وغيور على بلده السودان ويتمنى أن تتاح له الفرصة حتى يستطيع أن ينتج ويحول تلك الاختراعات إلى منتج وطني يستطيع السودان أن ينافس ويفتخر به بين الأمم فهو يملك خمس عشرة براءة اختراع مسجلة وبلغت جملة مبتكراته زهاء الثلاثين. لكن يا ترى هل أصبح العلماء والمخترعون حظهم كحظ الكتاب والأدباء والشعراء يهيمون في بقاع الدنيا ويجدون القبول والتقدير من غيرنا بينما نحن في حاجة لكل مفكر وعالم حتى تستطيع بلادنا اللحاق بركب الحضارة والتقدم؟ ومن هنا نناشد الإخوة في جهاز المغتربين وعلى رأسهم الدكتور كرار التهامي الذي كثيراً ما سمعناه يتحدث عن تشجيع عودة العقول السودانية المهاجرة عبر شراكات ذكية مع هذا الجهاز ليقدموا علمهم ومعرفتهم وخبراتهم للوطن بأن يتواصلوا مع هذا الرجل المبدع الذي طالما تمنى أن يضع معرفته وخبرته تحت تصرف الجهات المختصة في السودان ولعل شركة «جياد» وغيرها من مراكز ومؤسسات التصنيع تتيح له الفرصة ليتمكن من ممارسة هذه العبقرية داخل حدود الوطن أو على أقل تقدير تقدم له الدعم الفني حتى يفيد بني وطنه ويسهم من ثم في النهضة التي بدأت تنتظم البلاد في المجالات الفنية كافة. يقيم المهندس أبو القاسم الآن في جدة بالمملكة العربية السعودية ويعمل ضمن فريق سنتينيال إنترناشونال وهي مؤسسة كندية متخصصة في التدريب الفني.