طال صمت الحكومة السودانية عن حقيقة لم يعد إخفاؤها ممكناً، في عصر تتزايد فيه المعارف بسرعة ضوئية، لتتحدث خلال الأيام المنصرمة عن احتضار البحث العلمي من داخل البرلمان السوداني، فلماذا فشلت الدولة في بناء القدرة الذاتية للبحث العلمي؟ وما يزيد من وطأة هذه الحقيقة أن كثيراً من المعارف والابتكارات لا تصل الى من يحتاجونها، ولماذا صمتت الدولة عن هذه الحقيقة مع انها امام عينيها؟ فهل يدل ذلك على تجاهلها البحث العلمي وتشجيعه؟ إذ تصنف الدول التي تهتم بالبحث العلمي بأنها الاكثر استقراراً في التنمية والاقتصاد، وتتمتع بتفوق في العلوم وبحوثها وكوادرها ووسائلها، فضلاً عن امتلاكها نصيباً لا يستهان به من البراءات الممنوحة للابتكار في ظل نظام تحكمه الملكية الفكرية، وثمة مؤشرات واضحة تدل على تدني البحث العلمي في السودان وفقا لما ذكره البرلمان باعترافه أخيراً، وحتى البحوث الموجودة اكتملت بفضل المهتمين بها، في وقت أحجمت فيه الدولة عن تمويل تلك البحوث على قلتها. وتدنى عدد براءات الاختراع المُسجّلة بأسماء باحثين سودانيين مقارنة مع بحَّاثة في دول أخرى تنشط في البحوث بشكل مباشر مثل الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا، بجانب ضآلة الموازنات المخصّصة للبحث العلمي ليس في السودان فحسب، وانما ينطبق الحال على الوطن العربي بشكل عام، فهل يملك السودان حلولاً عملية للخروج من دائرة الاحتضار؟ ألم يحن الوقت لتضع الدولة استراتيجية وطنية للبحث العلمي تحدد فيها أولويات البحث والتطوير لإشباع مجالات الزراعة والصحة والتنمية الصناعية والبيئة وغيرها، وزيادة تمويل العلوم بنسبة مقدرة من اجمالي الناتج الوطني على أقل تقدير؟ وهل تنظر الدولة بجدية الى خيار التمويل المحلي للبحث وتطويره؟ ولماذا لم توجِّه نسبة من ضرائب الشركات إلى صندوق خاص لتمويل البحوث العلمية المتصلة بالتنمية؟ وهل من الصعب إدراة تمويل البحوث من الجهات الأكاديمية والحكومة والقطاع الخاص؟ وهل الصرف على البحث العلمي فوق امكانية الدولة؟ وهل من الصعب تعزيز القدرة الذاتية في العلوم في مراكز التميّز المستقلة التي تتركز في أيديها برامج بحثية متنوّعة؟ والاهم من ذلك هل للجامعات السودانية المتخصّصة دور في تدريب الأجيال الجديدة من المواهب في مجال العلم والتكنولوجيا؟ وهل وتقوم بالبحث والتطوير في مجالات يحتاجها المجتمع؟ وهل توفر مصادر مستقلة للمعلومات حول ما يهم المجتمع؟ فما فتئت الجامعات السودانية تشكو لطوب الارض قلة مخصصاتها المالية لتسيير أنشطتها الروتينية، ناهيك عن الصرف على البحث العلمي ومخرجاته. ولماذا لم تستدرج الجامعات السودانية مراكز بحث عالمية عبر برامج تعاون دولي بين أكاديميات العلوم والتكنولوجيا والطب؟ ولماذا نأت الحكومة عن دورها المحوري في صنع شراكات بحثية بين القطاعين العام والخاص؟ والجدير بالذكر ان هناك عددا مقدرا من الاختراعات التي خرج بها بحاثة سودانيون، إلا أنها لم تجد الاهتمام من قبل الجهات المسؤولة، فاستفادت منها دول اخرى بحسب في ما اورده الكاتب فيصل محمد فضل المولى بصحيفة «الصحافة» في التاسع عشر من مايو المنصرم، فالدكتور السوداني طارق مصطفى أرباب اكتشف علاجاً للسكري وحصل على براءة اختراعه من بريطانيا وأمريكا، فمن الذي استفاد من ذلك الدواء؟ ولقد تم تسجيله في الإمارات العربية المتحدة ليوزع بواسطة شركة فارما لنك للأدوية، والمهندس الهادي آدم محمد اخترع جهازاً لتنقية المياه الملوثة، ويستخدم ذلك الجهاز الآن بمحطات التنقية بنيجريا، وهناك الباحث محمد مدني الطيب الذي نال درع جامعة الدول العربية بعد منافسة حامية مع «547» مخترعاً من الدول العربية، وذلك لاختراعه جهاز «صائد البعوض» ذلك الجهاز العجيب الذي يعمل على جذب البعوض من مسافات بعيدة، ولديه مخترع آخر لتبريد الأسرَّة في فناء المنزل ويستهلك كميات قليلة جدا من الكهرباء، والمخترع محمد عثمان أرصد الحائز على الجائزة الثانية في مسابقة نجوم العلوم بدولة قطر لاختراعه جهاز «أرصد» لاختبار جودة وصلاحية زيوت الطعام، وكذلك المهندس محمد يونس محمد شجر الذي حصل على الجائزة الأولى بالمعرض الدولي الثاني للاختراع بالشرق الأوسط، والميدالية الذهبية عن اختراعه لقفاز يعمل على تطوير لغة الإشارة العربية الى صوت منطوق، كما حاز المخترع سامي فتحي علي خليل على الميدالية الذهبية الثانية عن اختراعه لجهاز الكتروني لمساعدة الكفيف على قراءة النصوص العربية من الحاسوب، كل هذه نماذج ماثلة لم تتمكن من إخراج ما وصلت اليه لمن يحتاجونه، فأين المواطن السوداني من تلك البحوث؟ كما يقول البروفيسور عبد الفتاح عبد الله طه عميد كلية الدراسات العليا الأسبق بجامعة الزعيم الازهري والخبير فى منظمة الزراعة والأغذية بالأمم المتحدة، إن تدهور البحث العلمي يبدأ بإبعاد الباحثين والعلماء عن طلبة العلم فى قاعات الجامعات بعد وصولهم الى سن المعاش، ويضيف هذه السن هي التي يصبح فيها الباحث أكثر خبرة والطلاب هم الأكثر احتياجا لهذه الخبرات. ويذهب بروفيسور طه فى ذلك قائلا: لا بد فى المقام الاول إن نقول إن هؤلاء الاساتذة الذين بلغوا سن المعاش قد تلقوا تأهيلا متميزا من خلال البعثات العلمية التى حصلوا عليها فى السنوات السابقة، والاتصال بمراكز البحوث العلمية فى العالم من خلال ما كان متوفرا من علاقات بين هذه المراكز والجامعات السودانية، وهذا ما يُفتقد الآن خصوصا بعد التوسع الكبير والأفقى فى التعليم العالى، فالملاحظ الآن أن عملية البحث العلمى ضعيفة والتأهيل الخارجى لاساتذة الجامعات قليل ولا يكاد يكفى الاحتياجات الضرورية لسلامة العملية الاكاديمية، وهذا يعني أن هنالك شحاً فى مجال الاساتذة بالجامعات، فالوظائف الادارية هى خصم على عمليات البحث العلمى بالنسبة للحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراة والاستاذية، ولم يبلغوا سنا قريبة من المعاش. وبعد أن قالت نائبة رئيس البرلمان سامية احمد محمد ان البحث العلمي يحتضر بصريح العبارة، وان البحوث تتحرك بفضل أصحابها وليس بسياسات الدولة التكاملية، واكدت ان الوزارة تعاني من حالة عدم استقرار لأنها «تفكك وتجمع وهكذا» وقطعت بافتقار البحوث للتمويل وقالت لا يمكن النهوض بالخطط دون تمويل، وشددت على ضرورة ان يدق البرلمان ناقوسا للاهتمام بالمجال والعمل على رصد الميزانيات لتحقيق النهضة العلمية، واضافت «البحوث العلمية لا تعرف الاشواق وانما هي افعال ونتائج ملموسة»، فهل سينعكس ذلك على واقع البحوث ام انها تبقى اشواقاً برلمانية؟ فيما اعلنت وزارة العلوم والتكنلوجيا، امتلاكها لاول مفاعل نووي بحثي بقدرة خمسة ميقاواط، في الوقت الذي نعتت فيه نائبة رئيس المجلس الوطني سامية احمد محمد البحث العلمي، واكدت انه يحتضر، فهل تتمكن الجهات المسؤولة من انقاذ حياته ام سيحتشد الجميع لاداء صلاة الجنازة عليه قريبا؟ وقال وزير العلوم والتقانة عيسى بشرى في بيان امام البرلمان، ان الوزارة بدأت بامتلاك اول مفاعل نووي بحثي بقدرة 5 ميقاواط، واشار الى انه يساهم في انتاج النظائر المشعة للاستخدامات الطبية والصناعية، وفي تحلية المياه وتدريب وتأهيل الاطر البشرية لتشغيل المحطات النووية الكبيرة المتوقع انشاؤها في المستقبل القريب، وأكد الوزير ان ذلك يتم تحت اشراف ومراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكشفت الوزارة عن مشروع لمكافحة الباعوض الناقل للملاريا باستخدام الطاقة النووية بتمويل من بنك التنمية الإسلامي.