تتنامى في إقليم أراكان البورمي منذ أسابيع أعمال عنف طائفي ممنهج ضد مسلمي الإقليم، من قِبل مجموعات بوذية تمارس همجيتها تحت سمع وبصر السلطات الحاكمة وبدعم يكاد يكون مفضوحًا من قواتها، وهو ما ليس بالشيء الجديد تاريخيًا فمنذ سنوات طويلة وبين الحين والآخر يتعرَّض المسلمون هنالك لشتى أشكال الاضطهاد والتفرقة العنصرية من قِبل السلطات في بورما التي ظلت تشن عليهم حربًا لا هوادة فيها منذ بداية الأربعينيات، تاريخ استيلاء الشيوعيين على الحكم في بورما، حيث بدأ معهم عهد جديد من الإرهاب والاضطهاد للمسلمين الذين تم اعتبارهم في عام «1982» مهاجرين غير شرعيين، ومن ثم فقد تم حرمانهم من المواطنة البورمية وأعطيت لهم بطاقات خاصة تعرفهم على أنهم أجانب وليسوا مواطنين.. وهو شيء يكاد يغالط كل الحقائق التاريخية التي تؤرخ لدخول الإسلام في بورما في القرن السابع الميلادي في عهد الخليفة هارون الرشيد وذلك عن طريق التجار العرب، فيما تشير بعض الدراسات إلى تاريخ يسبق هذا التاريخ بكثير، وقد قامت دولة إسلامية في الإقليم امتد سلطانها لما يقارب الثلاثة قرون ونصف حيث حكمها «ثمانية وأربعون» ملكًا مسلمًا فيما بين «1430 و1784» وفي محاولة من البوذيين الذين يشكلون إحدى قوميات الإقليم لمنع انتشار الإسلام، قام أحد ملوكهم في نهاية «1784» بضم إقليم أراكان إلى بورما وعمل على وقف المد الإسلامي وتدمير الآثار الإسلامية، واستمر البوذيون في اضطهاد المسلمين طيلة الأربعين سنة التالية وحتى مجيء الاحتلال البريطاني في عام «1824» الذي جعل بورما مع إقليم أراكان مستعمرة مستقلة في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي وعرفت بحكومة بورما البريطانية.. وفي بداية الأربعينيات تعرَّض المسلمون في الإقليم إلى أولى محاولات الإبادة حيث وقعت مذابح وحشية راح ضحيتها مئات الألوف وكانت هذه الحادثة بداية سيطرة قومية (الماغ) البوذية.. ثم كان منتصف الأربعينيات بداية الأزمة الحقيقية للمسلمين حيث استبعدوا من مؤتمر قومي كان يمهد للاستقلال عن بريطانيا وبداية لتقرير المصير وبالفعل تم الاستقلال عن بريطانيا في نهاية الأربعينيات مع شرط صريح من الإدارة البريطانية بإعطاء مواطني أراكان حق تقرير المصير، ولكن بعد الاستقلال حنثت الحكومة البورمية بوعدها وواصلت حكمها للإقليم دون رغبة سكانه المسلمين.. ثم كانت الأحداث الأسوأ بانتظارهم حين استولى جنرال شيوعي على الحكم في بداية الستينيات من القرن الماضي وحينها تعرَّض المسلمون إلى شتى أنواع الاضطهاد والتنكيل من تشريد وتهجير وتضييق ومصادرة للأراضي، وبأهم من ذلك وفي العام الثاني من الثمانينيات تمت مصادرة مواطنتهم واعتبروا أجانب تمامًا، بل ولاجئين.. وقامت السلطة الشيوعية بعمليات طمس للهوية الإسلامية للإقليم بأن دمرت للمرة الثانية غالبية الآثار الإسلامية وما بقي منها رغمًا عن ذلك يمنع من الترميم حتى تهوى على رؤوس مرتاديها بفعل عامل الزمن، وتمت محاولات مستميتة لتذويب المسلمين في المجتمع البوذي البورمي قسرًا، بل ومورس الطرد والتهجير القسري من القرى والأراضي وذلك كما يسجل التاريخ على امتداد الأعوام منذ «اثنين وستين وتسعمائة وألف» وحتى العام «ثمانية وسبعين» ثم العام «ثمانية وثمانين» ثم «واحد وتسعين» وذلك بهدف إجراء عملية تغيير ديموغرافي للمنطقة، حيث تم بناء قرى نموذجية للبوذيين على أنقاض ملكيات السكان الأصليين.. وظلت السلطات البورمية على امتداد سنوات الحكم الوطني لا تعترف بعرقية سكان أراكان المسلمة رغم المطالبات الدولية المستمرة.. تقع بورما في الجنوب الشرقي لآسيا حيث تحدها العديد من الدول الآسيوية كالهند والصين وبنجلاديش.. ويصل عدد سكانها إلى خمسين مليونًا يشكل المسلمون نسبة «51%» منهم أغلبهم في إقليم أراكان والبقية من البوذيين وطوائف أخرى ويتكون اتحاد الجمهورية البورمية من أكثر من «مائة وأربعين» «عرقية» أهمها البورمان وهم الأغلبية الحاكمة والروهينغا وهم مسلمون والماغ وهم بوذيون، حيث يتحالف البورمان والماغ الآن لإبادة المسلمين بعد أن أصدرت السلطات قرارها بضرورة إعادة حق المواطنة لهم تحت ضغط دولي وهو ما يعني تمتعهم بكل الحقوق حتى السياسية بما فيها إمكانية دخول الانتخابات والتربع على كرسي الرئاسة لاتحاد الجمهورية البورمية.. وهو ما أدى لتفجُّر الأحداث الأخيرة، حيث يحاول البوذيون منع سريان هذه القرارات بافتعال أحداث الشغب والقتل الأخيرة التي قادت في نجاح للمخطط الخبيث وبدعم من السلطات إلى إحداث فوضى عارمة أوقفت كل شيء وأدت فيما أدت إلى مهاجمة الأحياء المسلمة وأعمال القتل والنهب وحرق القرى بل واغتصاب المسلمات، وهو ما دفع المسلمين للفرار من أراضيهم واللجوء إلى أقرب المناطق الآمنة لهم في بنجلاديش التي تقام فيها معسكرات لإيواء الفارين ولكنها مع ذلك تفتقد لأبسط مقومات الحياة اللائقة وتنتشر فيها الأوبئة والأمراض لقرب أكثرها من المستنقعات، وفوق ذلك فإن السلطات البنجالية أعلنت مؤخرًا عدم قدرتها على استيعاب المزيد من اللاجئين الذين أصبحت أعدادهم تفوق الطاقة الاستيعابية لهذه المعسكرات بكثير، الشيء الذي ينذر بكارثة إنسانية وخيمة على كل المستويات. الآن هناك ما لا يقل عن عشرة ملايين مسلم يتعرَّضون لإبادة شاملة في إقليم أراكان تعتبر هي الأسوأ في تاريخ استهداف المسلمين في بورما وذلك تحت سمع وبصر العالم.. وتحت أنوف منظماته الحقوقية والإنسانية، بل وتحت سمع وبصر المنظمة الأممية بكل أجهزتها بما فيها محكمة (العدل) الدولية وأيضًا المحكمة الجنائية ومدعوها التي تظل تطفف في الميزان كيفما يحلو لها دون وازع من ضمير أو عدالة أو إنسانية.. فكيف لا توقظها من سباتها كل المجازر التي تتم بحق المسلمين، وكيف لا تنتبه وقد تحول الأمر إلى حرب شاملة ضدهم حيث لم يعد لهم مكان يلجأون إليه بعد أن وصلت أعداد الفارين من جحيم القتل والحرق والاغتصاب إلى مئات الآلاف وضاقت بهم معسكرات اللجوء.. بل وعلَّقت كثيرٌ من المنظمات الطوعية عملياتها منذ منتصف يونيو لسوء الأوضاع كمنظمة «أطباء بلا حدود» التي اُعتقل عددٌ من كوادرها العاملة من قِبل السلطات.. فأين المنظمات الدولية الحقوقية، أين منظمات الإغاثة والهيئات الخيرية، أين الكثير من الجهات التي تظل تملأ العالم ضجيجًا من أجل أحداث هي أقل خطرًا من ذلك بكثير؟؟ والأسوأ من كل ذلك أن القضية تكاد تكون مغيبة إعلاميًا ويمارس عليها نوع من التعتيم والإهمال المتعمَّد ربما حتى تفي العملية بأهدافها الكلية ويباد كل الشعب الأراكاني المسلم أو يبيده الجوع والمرض في معسكرات اللجوء!!.