مثل كائن غريب هائم في الليل، يخبط خبط عشواء، أو كحاطب ليل يجمع في حزمته حتى الأفاعي.. هكذا دائماً هي السلطة أي سلطة في الدنيا والتاريخ.. عندما تفقد قدرتها على الاستبصار والنظر الدقيق وتفلت الأمور من بين أيديها مثلما يفرُّ الماء من بين فروج الأصابع...!! ولا شيء يجعلها جرباء وشمطاء مكروهة عند الشم والتقبيل، مثلما هي عليه.. عاجزة، مترددة، متحللة، عاثت فيها بكتريا الانهزام واجتاحتها فيروسات الانحدار والانهيار، فسقفها كأنه آيل للسقوط وبيتها تتناوشه الرياح من كل جانب، وأصحابها على سررهم السراب يتوهمون أن هناك ما يصدُّ عنهم من الريح عصفها وهم سادرون.. وقديماً شبهها العقلاء والحكماء من أهلنا البسطاء ، بأنها مجرد «ضل ضحا» تزول وتزهق وتنفق ولا تبقي على أحد ولا تمكث للأبد لمن ظنَّ أنه بها بلغ الكمال. «ب» من مقابحها الكبار هذه الزائلة المائلة، أنها حين تلفظ منسوبيها وتلقي بهم عند قارعة الطريق، تسلبهم ذلك التماسك والبريق النظيف وتأخذ منهم طلاوة النفس الذكية فتشوه مظاهرهم ومخابرهم، فيصبحون وكأنهم على فعلتهم نادمون.. وحملنا.. جرحنا الدامي حملنا و إلى أفق وراء الغيب يدعونا.. رحلنا شرذماتٍ.. من يتامى وطوينا في ضياعٍ قاتم.. عاماً فعاما وبقينا غرباء وبكينا يوم غنى الآخرون هكذا يتراءى للناس كل وزير سابق أو دستوري انحسرت عنه غلالة السلطة الزاهية ولم تعد تغطي صدره بألقها ولا رجليه العجفاوين ببعض الستر الجميل.. وليس هناك ما هو أقسى من ملفوظي الكراسي السلطوية وهم في وداعهم المجيد لها، يتقاطرون إلى حوائط مبكاهم كالفراشات على نار الهوى جئن إليه واحترقن. مثل الرياح تفعل في عقول البعض فعلها، فإما تحولوا لنقاد شديدي الوطأة وهم ينتقدون كل صغيرة وكبيرة أو مكرهين على جلد الذات حتى تسيل كل الدماء. «ت» السلطة نار وليست نور، لا يصطلي أحد بها إلا أحرقته، ولا يتوهم ظان أنه سيبلغ بها نهاية الأرب إلا أركسته وماكسته، وبرقت له في ناظريه كالسحاب الخلَّب ثم ولّته ظهرها وقلبت له ظهر المجن...! ولهفي على رجال كبار دكّت السلطة حصونهم. وهم إما مهنيون انتُزعوا من وظائفهم وأماكن رزقهم ومواطن خبراتهم وأجلسوهم على مقاعدها الكاذبة ثم جُردوا منها فما استطاعوا مضياً في دروب السلطة اللولبية الحلزونية ومتاهاتها وفجاجها، ولا عادوا غانمين حيث كانوا، فكل شيء ضاع كالعمر النضير والآمال الباسقات والوعد الجميل. وضحايا السلطة ولعبة السياسة كالسابلة، لا يتذكرهم أحد ولا يحفل بهم خلقهم العاق، قد ترى خبيراً بارزاً في مجاله سحقته الحياة بعد أن تلوّث بروث المنصب الخادع، أوعسكرياً ازدحم صدره وتلألأ بالنياشين غازلته السلطة وأوقعته في حبائلها ثم ركلته للشارع العريق يبكي على مجد لم يكتمل وعلى نياشين لم تسقه ماء الحياة بعزة مثل العِظام الكرام.. وربما ردد أحدهم ما قاله محمود درويش ..في قصيدة صوت وسوط: لو كان لي برج، حبست البرق في جيبي وأطفأت السحاب.. لو كان لي في البحر أشرعة، أخذت الموج و الإعصار في كفّي ونوّمت العباب.. لو كان عندي سلّم، لغرست فوق الشمس راياتي التي اهترأت على الأرض الخراب.. لو كان لي فرس، تركت عنانها ولجمت حوذيّ الرياح على الهضاب.. لو كان لي حقل ومحراث، زرعت القلب والأشعار في بطن التراب.. لو كان لي عود، ملأت المتن أسئلة ملحّنة، وسلّيت الصحاب.. لو كان لي قدم، مشيت.. مشيت حتى الموت من غاب لغاب.. لو كان لي، حتى صليبي ليس لي إنّي له، حتى العذاب! _ ماذا تبقّى أيُّها المحكوم؟ إنّ الليل خيّم مرّة أخرى.. وتهتف: لا أهاب؟! _ يا سيداتي.. سادتي! يا شامخين على الحراب! الساق تقطع.. والرقاب والقلب يطفأ لو أردتم والسحاب.. يمشي على أقدامكم.. والعين تسمل ،والهضاب تنهار لو صحتم بها ودمي المملّح بالتراب! إن جفّ كرمكم، يصير إلى شراب! والنيل يسكب في الفرات، إذا أردتم ، والغراب.. لو شئتم.. في الليل شاب! لكنّ صوتي صاح يوماً: لا أهاب فلتجلدوه إذا استطعتم.. واركضوا خلف الصدى ما دام يهتف: لا أهاب! «ث» أما أطوار هذا السرداب الأسود الطويل والثقب الهلامي المسمى السلطة، فلا أحد يستطيع تحديد مداها، فلديها قدرة مدهشة على استخدام جاذبيتها المغنطيسية في جذب فرائسها واختيارهم واستدراجهم. وذات القدرة على تنفير من لا ترغب فيهم إلاً وذمة.. الجميع عندها يصلحون إلا من نفرت منه وارتعدت فرائصها من مرآه، وكلهم عندها مقمحون إلا من لانت له وأفرخ روعها ومالت إليه، فهي كأنثى العنكبوت إذا قضت وطرها من ضحيتها قتلته وامتصت دمه ورمته كجيفة نتنة لا يصلح بعدها لشيء سوى الطمر في جوف التراب.! لكنها ذات قدرة على التوافق مع نوع خطير من خطابها وطلابها الذين يجيدون مآكل الأكتاف منها، ويراوغون مراوغة الثعالب وهم في حلباتها على جباههم سيماء الزيف والملق والفجور.! «ج» هذه الأنواع المتماهية مع شؤم السلطة، أنواع باذخة الأنحاء عند مباهج الحكم ومظان ومكامن قوته وبريقه، تتحدث بأكثر من لسان وتتصيّد كل لحظة تفتح فيها السلطة آذانها لتسمع مديحها أو أسرار الكامنين الحاقدين لها، أو حين تشرع أبواب قلبها الصخري للمتعبِّد المبتهل الذي يسبِّح بحمدها آناء الليل وأطراف النهار. انظروا فقط للذين يدورون في فلك أي سلطة ومداراتها، أليسوا هم بعض أصحاب الطنين المخنّث، وأصحاب المخالب السلطوية الدامية التي تنهش لها لحوم خصومها أو تطن في آذانهم وتروعهم لها دونما توقف؟. أليسوا هم المشاءون بنميم، يزحفون كما تمشي الأراقم في الصعيد ينفثون سمومهم، ويتضاءلون في ذواتهم ويختزلون الحياة كلها في مجرد ترتيل تافه عند معبد السلطة ولا سلطة هناك. «ح» حسب المرء في هذه الحياة بعض التماسك والكبرياء، فكلما تلاعبت به رقاقات البهرج المزيف، لا تنخدع عينه ولا تبهره الأضواء ومساقطها والأصوات وملاقطها، فالحياة في الطرف الآخر من نهرها هي أجمل وأوسع وأكثر اطمئناناً وأمناً من الجلوس وسط سلال الأفاعي السامة. السلطة هي هذه السلال، يتنافسونها كما الدنيا التي يتنافسونها فيكونون عراة من أخلاقهم وخلالهم، ويتحولون لجوارح لا تعرف إلا الضرب بالمخلب والمنقار الكاسر، وفي النهاية تبتسم السلطة كساحرة أسطورية مُلئت شراً بأنها روّضت هؤلاء وسقتهم حليب السأم المدمِّر. وهكذا قال الشاعر قاسم حداد في ليلة ذات يأس بالغ: هنا يأس سينقذنا من الأحلام، نحن شهوة الفردوس نهذي في جحيمٍ غير مكتمل ٍ لكي نسهو عن المكبوت والرغبوت. لو نار ستوقظ ماءنا... كنا تمادينا لئلا ننتهي. يا منتهانا هل سرى ترياقنا فينا فأدركنا مرارتنا وأوشكنا على ندمٍ فقدنا منحنى أحلامنا في الوهم، قلنا شعرنا كي يفضح المعنى ويغفر أجمل الأخطاء، لو قلب لنا أغفى على كراسة الأسماء كنا ننثني شغفاً، فنشهق في اندلاع الحب يذبحنا ويلهو في شظايانا. بكينا مرةً للحب، لم نكمل أغانينا. بكينا حسرةً، وتماهت الذكرى مع النسيان، لو كنا مزجنا ليل قتلانا بماء النوم لم نهمل قصائدنا على ماضٍ لنا. متنا قليلاً وانتهينا في البداية، لم نؤجل سرنا كنا انتحرنا قبل قتلانا وأخطأنا كما نهوى، فلا ماء سيرثينا ولا نار ستمدحنا.