ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثية قصصية من أجل دارفور ... بقلم: اميمه عبدالله صالح
نشر في سودانيل يوم 16 - 08 - 2009


[email protected]
كانت الرمال مستلقية بهدوء ، سابحة فى الأشعة الحارقة ، صابرة على دنو الشمس منها ، ممتدة مع البصر ، موحشة وصامته تنظر الينا بطرف خفى مستتر ، كانوا مستغرقين فى نوم عميق كالاموات جميعهم ما عداى والزعيم ، لقد سرنا على اقدامنا مسافة يوم كامل . الشمس خلّفت اثارا غائره على الوجوه ، حفرت خطوطا عميقة ، الشفاه صار لها لون الرماد والطريق مازال طويلا .
الحياة تبدو كنفق مظلم ، جفت ضروع الأمهات لم يتناولن طعاما منذ الامس ، صرن هزيلات شاحبات ، الجوع بدأ واضحا فى العيون ، لا امل فى الرجوع إلى الديار لأنه لم تعد هناك ديار ، كنا تحت وطأة التعب والعطش ، الجوع والرحيل . صراخ الاطفال يزداد كانوا مرعوبين وكنا فى العراء ، صراخهم لم يكن طبيعيا ، احسه اجراس تحذير من خطر قادم ، خطر لا نراه نحن البالغين . يبكون بلا دموع ، على عظمة الوجه ارتسمت ملامح ابعد ما تكون عن اطفال فى اعمارهم ، الجوع سلبهم الحياة ، ملامحهم مقيدة باشعة الشمس القوية وشقاء الرحلة ، ضلوعهم اكثر وضوحا .
مساحات من الرمال بلا شواطىء تلتحم بالأفق البعيد مع السماء ، الصحراء فسيحة مكشوفة امامنا بلا آثار سحب تمتص بعض اللهب الجفاف إجتاح الأودية وهيمن السراب ، الجدب والحرب قهرا اكثر نباتات الصحراء قدرة على تحمل العطش .
الزعيم كان يتفقد فى تلك الأوقات المجموعة عن قرب ، كان رجلا طويلا ، مهيبا ، صامتا ، شجاعا لا يخاف المواجهة ، يحترم الكل ويقدم العون للجميع ، بعد أن تفقدهم حدثهم عن الصبر ، خاطبهم بحنان ورفق
- سناكل الآن بعدها نواصل السير
ذهب بعد ذلك للصلاة ، قرأ آيات بصوت مسموع ثم دعاء الله أن يخفف عنهم عناء الرحلة ويلطف بالأطفال وأن يرفع عن الجميع وطأة الحنين إلى الديار . يدخل فى مناجأة طويلة وحزينة بصوت مسموع .
بدأنا نبحر من جديد فى الرمال بمجموعة بها خمسين امرأة وعشرة أطفال وامرأة حبلى على وشك الولادة . الوقت يمر بطيئا و كأن الدقائق ابدية ، سرنا مسافة طويلة حتى بلغنا قرية نائية تقف وسط الخلاء وحدها تعاند الريح وانفاس الصحراء الجهنمية . لا تكاد تلمح من البعد ، ملتحمة بالرمال تسكنها خمس أسر تقريبا ، استقبلونا خارج قطاطيهم ، كانوا يرتدون ثيابا وسخة مبللة بالعرق المخلوط بالرمال ، بنادقهم على أكتافهم ، على وجوههم الكثير من البثور كأنهم قادمين من تحت الأرض لم يكن لديهم ما يقدموه لنا ، كانوا اكثر بؤسا منا ، قطاطيهم من القش مدخلها قريب من الأرض ارتفاع القطية بقامة رجل ، لا يوجد مكان نرتاح فيه واصلنا المسير عبرنا مساحات اخرى من الرمال ، العراء ما زال ممتدا ، الشمس بدأت تزحف نحو مثواها الأخير لكن أشعتها مازالت كاللهب .
قال لىّ دليلنا
- بعد هذا اللسان الرملى تقع الحدود لكننا اولا سنمر بقرية تريبه فهى قبل الحدود بقليل .
كنا نسير صامتين حتى صياح الاطفال هدأ ، لا ضجيج سوى صوت حوافر الحمير ، قطع ذلك الهدوء صوت المرأة التى كانت تنتظر مولودا يبدو أنه الم المخاط ، عسكرنا سريعا فى بقعة خلاء ثم شددنا خيمة جلست داخلها ومعها بعض النسوه ، بدأت أمها بأشعال النار قالت أنهم سيحتاجون إلى الماء الساخنلكنا بعد مسافة زمن قصير خرجت زاحفة صارخة تتبعها بعض النسوه وخيط دماء خلفها ، يبدو أنها كانت تنزف ، سالتهم عن زوجها قالوا أنه توفى فى الهجوم الأخير الذى دفعنا لهجر الديار ، العرق يتصبب منها بقوة ، أحاطوا بها ، كنت أقف بعيدا ، اراقب علّهم يحتاجوننى ، كانت تقبض على ذراع أمها بقوة تستنجد كل المحيطين بنظراتها ، أشارت لىّ احداهن ، ذهبت مسرعا .
- يجب حفر حفرة عميقة بقامة رجل ونصف تقريبا واحضار عود غليظ بطول أطول من مقدار مدخل الحفرة .
بدأنا أنا والدليل العمل بسرعه شديدة ، كان أنينها فى تلك الأثناء يذداد وضوحا لكنه كان أكثر حزنا وعميقا ، صاحت أحداهن
- اسرعوا ستموت
بعد أن انتهينا أشارت أكبرهن سننا بربط الحبل بأحكام على منتصف العود بحيث يربط طرف الحبل الأخر بكفىّ الفتاة لنعلقها على أن يتدلى جسدها داخل الحفرة (( تلك كانت هى المرة الأولى التى أرى فيها ولادة الحبل ))
لم تستطع الفتاة الوقوف كانت تنزف دماء غزيرة ، تلطخ ثوبها بالكثير منها ، حملتها وأنزلتها داخل الحفرة بعد أن ربطت كفيها بالحبل ، نزلت المرأة التى أشارت الىّ بحفر الحفرة وجلست فى القاع ، جردت الفتاة من ثيابها ، بقية النساء تحلقن على الحافة يشددن من ازر الفتاة .
- الولادة متعسرة جدا والنزيف مستمر
وضحت المرأة التى معها فى الحفرة
أمها كانت تنتحب بصوت عالى ، ذهبت اليها تبتبت على رأسها
- ستكون بخير انشاء الله ، صلى وأطلبى لها الله
- النزيف قتل نصف نسائنا ، ستموت
لم ادر ماذا افعل جسدى ينتفض كحمامة ، الفتاة فى توسلاتها ، نظراتها كطفلة ، طفله ايقظت كل مظاهر الشفقة عندى ، زلزلت الاعماق البعيدة ، طفلة جعلنى موآلها احملها بيدىّ بحنان الام الصادق بعد أن وضعت مولودها ، كانت بنتا . وضعت الجسد المغسول بالدم على قطعة قماش مفروشة على الأرض داخل الخيمة ، كانت لها قامة عالية وسمرة صحراوية اصيلة ، مرت الدقائق كأنها قرون وددت لو استطع البقاء مع النسوة داخل الخيمة ، وجعى على الفتاة كان عظيما وشفقتى سيلا جارفا ، النزيف ما زال مستمرا هكذا قلن . اجتهد النسوة لايقافه دون فائدة ، كانت الى البعيد الى نقطة فى الأفق تلوح لها بالسراب والامل الزائف ، شفتاها رغم الالم مبتسمتان كانت فى الخامسة عشر من عمرها هكذا أخبرتنى أمها .
الجميع كان فزعا حتى الزعيم غافله وقاره وصاريدور حول الخيمة كحجر الرحى ما عداها وكأنها فى سكونها ذاك تعبر البرزخ إلى الملكوت المقدس والسكون الجسدى الخالد ، ماتت بهدوء مستسلمة إلى الخلاص الالهى . النسوة بكينها باصوات عالية ونحيب واضعات الرمال على روؤسهن ، أنا ايضا بكيتها لكن بصمت الرجل الدارفورى الذى هدته المصائب والمحن وسلبته أرضه وموطنه جردته من داره واخرجته من قريته
بعد مسافة طويلة من البكاء المتواصل وإنشغال الأخريات بتجهيز الجثمان لاحظوا أن الفتاة المولودة ساكنة بلا حراك تحملها امرأة معمرة مكرمشة الجلد والوجه كانت طيلة سيرنا صامته ، اطلقت المرأة صرخة قوية لاتناسب ضآلة حجمها
- ماتت الطفلة ايضا
سيل الحزن جرف الجميع ، الدموع نزلت بغزارة على الرمال التى امتصتها بسرعة شديدة ، غطوا جثمان الأم بثوبها واضعين ابنتها على صدرها ، ذهبنا بهما وسط النواح الى مثواهما الاخير أنزلناهما بعد أن صلينا عليهما ، آهلت التراب ، لم استطع الوقوف بعد ذلك بركت على طرف القبر ادعو لها . غابت الشمس كليا وبدأت العتمة تتكاثف ، تحجب عنا المساحات الممتدة
- يجب أن نستانف السير حتى نصل الحدود سريعا
قال الدليل
كنا نسير متقاربين محتمين ببعضنا ، نتقدم ببطء ، الدليل يهتدى إلى الطريق بالنجوم نحن ايضا استنجدنا بضوء القمر لمعرفة مواضع القدم ينجدنا من العتمة الموحشة الحرب قتلت الحياة فى الصحراء الأشجار المعمره ، النباتات الشوكية التى تحتمل العطش وتقتات عليها المواشى ايام القحط ، كل شىء صار إلى الفناء .
كنا نقاوم أنفاس الصحراء الحارقة ببطء السير ، نسمع أصوات بعض النساء المتوجعات من هجرة الديار ومكان الميلاد . كنا جائعين كلنا الأطفال والبالغين لم نعد نحتمل ، معنا القليل من المؤن ، أغلب النساء لم يعدن يحتملن السير اكثر ، وزعت على القافلة حفنات من التمر ، نظراتهم لىّ عندما أمدهم بالتمر تترجم لغة النفوس المفجوعة، نظرات خاطفة وعابرة لكنها كافية لتترجم ما تحمله ، العطش ايضا كان حاضرا .
عسكرنا وأشعلنا النيران لصنع العصيدة ، النساء يعملن بصمت لقد هدهن الجوع ، صوت لاهث هتك السكون ذاك منبثقا من زيل المجموعة ، صوت مرتعد نادى الزعيم ، هرول فى مشيته فى ناحية الصوت ، لم يستطع ضبط خطواته المتلاحقة ، هرولت خلفه ، لحقت به
- بتول !!
كانت كلمة واحدة قالتها المرأة التى كانت تقف قرب الجسد الممدد
- هل ماتت؟
سالها الزعيم
لم تقل لا او نعم ، علقت بصرها بالأرض ، عيناها تفيضان دمعا كانت ممدده على قفاها ، فاتحة عيناها على اتساعهما ، كانتا مغمورتين فى بياض شامل تحدقان فى الأفق البعيد أو فى سراب الوصول إلى الحدود والالتحاق بمعسكر اللأجئين هناك نظرتها غريبة حتى أن الخوف والرهبة تسللا إلى نفسى عنوة ، نظرة بها الكثير من الكبرياء المفجوع والمخلّف حيث الأراضى والديار والزرع ، نظرة نحو السماء نحو أمل مفقود ، كانت تقبض بيدها على حبيبات من الرمل دفناها بها ، كانت لحظة مشحونة بالخوف والخشوع . بعد الدفن وضعنا على قبرها حجرا ضخما ليكون شاهدا .
جلس الزعيم على تلة منخفضة يحدق فى الفراغ
- اترى يا أبنى أغلب هذه المساحات الرملية كانت قرى بها مئات الأسر ، كانت تفيض بالحياة
تنهد عميقا ثم واصل
- والآن هى جزء من الصحراء والفناء والعدم .
انسحب الزعيم بعيدا ، غاب فى العتمة ، تتبعته جلست حيث جلس ، السماء صافية والعتمة غيبت الصحراء وهدوء لا يكدر صفوه شىء ولا يسمع فيه غير صوت الايمان بالله عز وجل كان صامتا وجلا .
بعد منتصف الليل وقبيل الفجر الاول آذن المؤذن أن قوموا لمواصلة السير عبر البرزخ حتى نبلغ النجاة .
11 مايو 2..8
اميمه عبدالله صالح
ت/ .12213.872
أحزان شق الواطه
[email protected]
ولدت بين قرية تريبة ومعسكر شق الواطه ، كنا نمضى فى الطريق دون أمان وحراسة بثياب قذره ومهلهله وجلد مدبوغ بالشمس . نتقدم ببطء فى رتل طويل من النساء والأطفال فى مسيرة منهكة وشاقة .
لم تكن امى تنتظر لىّ مستقبلا جيدا ، كنت وحيدتها ، تحملنى ملفوفة على قطعة قماش وسخة ، ترضعنى لبن الجوع وتسير بطاقة مدت اليها مباشرة من السماء . أخبرتهم ساعة الطلق أنها فى الليلة الفائته حلمت بأن مصباحا من السماء سقط مهشما الى اجزاء كثيرة ، قالت سأنجب بنتا وستعمر الى أن تسقط أسنانها لكنها ستكون شقية .
مات أغلب الرجال بقى النساء ونحن ، كنا تسعة أطفال حديثى الولادة عاش اثنان . سرنا مسافات طويلة ، لا همهة ولا شىء مطلقا سوى الصمت حتى الحمير لم تكن تصدر نهيقا . دامت الرحله اياما ، وصلنا المعسكر فجرا بحلوق جافة وشفاه متورمة . كان رمز النجاة لنا ، ولم يكن سوى أشجار عارية وخيام مد البصر ومئات من الأطفال العراه الحفاة يتراكضون بين الارجل مثيرين زوبعة غبار كثيفة - حسب رواية امى - ، قضت نهارها ذاك فى صف الصدقات والمساء فى نقل الماء لتحممنى – ذلك ترف يحدث كل ثلاثة اشهر – شربنا ووزعوا علينا الخيام وبينها ترعرعت غارقة فى المشاهد المفجعة ، بعينان لا تستقران ابدا . .
عشت سنينىّ الخمسة الأولى وسط جوع ومرض وعُرى دائم ، شتاء وصيفا واذدحام على المرحاض إلى أن تتبول على رجليك وأنت فى الصف .
طفولة لم ابتسم فيها قط ولم ألعب ولم أدرس ، كانت اقل من الحد الفاصل لحياة معقولة ، خوف من الرصاص الطائش وصياح على الدوام كنا نعيش فوضى العلاقات .
لم ار قريتى ، دمرت قبل ولادتى بايام ، فى ذاكرتى فقط حياة المعسكر رغم أن وسائل الحياة فيه الأن تبدلت بحيث أن البعض بقى فيه والأخرين رجعوا الى قراهم .
أكتب هذه المذكرات الآن وأنا جالسة على مكان عالى يطل على النيل لأشرب مباشرة علىّ اروى ظمأ طفولتى ، اذكر ماضىّ وأكثر من التفكير فيه وقد مرت على حياة البؤس والفقر سنوات وسنوات ، اتوق لروية مكان نشأتى – لقد عشت زمنا طويلا بعيدة – أموت شوقا لاهلى ، خلق معسكر الجوع ذاك نوعا من التضامن الانسانى بيننا لذا كنت احسهم جميعا اهلى ، صبرنا على الفقر سنينا و الخيام . عشت بنصف قلب .
بعد الخمسة عشر عاما ماتت أمى وأصبت بالصرع وصرت اقع أرضا وانا اذبد بعينين تائهتين . ضاقت علىّ دارفور وصرت أرى نفسى كما فى شق ضب ، قررت الرحيل ، خرجنا ليلا نتسلل تفوح من ملابسى رائحة الخوف والعرق الكريهين ، كان علينا قطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام .
فى ليلنا ذاك قطعنا مساحات من الخضرة ، مناظر اراها لأول مرة ،إنه العالم بعيدا عن تشوه المعسكر العالق غباره بثيابى ، اتلفت أكثر مما يجب وهمس فى داخلى ينبئنى بأن لا شىء سيعود كما كان وبأننى لن اعود . سرت بمحاذاة الرجال بطموح مجنون وعناد اكسبتنى له حياة المهانة وذلة هبات المنظمات – احيانا يقللون وجبة الطعام بحجة أن عددنا اصبح كبيرا -
فى تلك الرحلة ادمنت الصمت حتى انهم لايكادون يشعرون بصمتى ، اتابع تبدل المناظر بقلب ممزق ومرهق بنوبات الصرع . كانوا يختارون اكثر الطرق خفية ووعورة بوجوه مسودة ، جلد محروق وعيون محمرة وايدى دامية نحاول الوصول إلى الحدود الليبية .
الحسرة تملؤنى وأنا اكتب عن تلك الايام ، سنوات الموت والمرض ، التجاعيد التى حفرت بوجوهنا والجلد الملتصق بالعظم ، كان العالم مشوها بالجوع ، لا احد يحتمل وجعى على تلك السنوات ولا حضن مخضب بالصبر ليستقبل هلوسة امرأة مريضة عظامها بالحنين . وحده الورق ، تعلمت الكتابة على كبر لاكتب يومياتى التى كانت تنتهى برغبة قوية فى البكاء ، سنوات ضاعت فى الأسفار وتغير الأمكنة والثابت الوحيد الحزن ، وسمت حياتى بعدم الأستقرار والأمان ، عشت بلا اسرة . الحياة تمضى وأنا لااكاد افتح حقايبى إلا لاحزمها لأحدث العالم عن حنينى وياللالم عندما لا تقتص لظلمك .
اميمه عبدالله صالح
ت/ .12213.872
حريق فى معسكر كلمه
Omimaalabady- @hotmail.com
خروجى فى العاشر من اغسطس من عام 2..3 لم يكن من أجل الشعارات التى كانت تنادى بها حملة إغاثة لمعسكر كلمه ، كانت أخبار الحرب تملأ الدنيا ، إبادة جماعية ، اطفال يستخدمون كدروع بشرية ، شيوخ يموتون من البرد والجوع ، عمليات نهب مسلح ونساء يغتصبن فى وضح النهار ، كان ثمة ما هو مخفى وراء الروح ، هذه الكلمات هى اول ما بدأت به رسالتى الأولى اليه ، كنت أكتب اليه بصدق عن موجة الوله التى أصابتنى عندما سمعت صوته بدء عبر الهاتف ثم عندما رايته ، كان قائد الحملة ومنظمها وهى تتالف من خمسة رجال باستثنائه .
عند ما صافحنى قررت ساذهب معهم ، كان هذا الرجل محل تقدير واحترام من الجميع يتحدث كامير ويعمل كثور ويمشى كقط ، ولديه من الصبر ما يكفى ليسمع الجميع .
تبنيت كل الشعارات التى اطلقتها الحملة من أجل الذهاب معه ، رفض لكنه تحت وطأة الحاحى لم يكن امامه إلا القبول ، كنت المرأة الوحيدة بينهم ، ذهبت معهم يدفعنى الحب لا الشفقة على اولئك النازحين ، احيانا نقطع مسافات طويلة استجابة لنداء ما دون أن نعلم بأننا ذاهبون لتلبية نداء أخر .
الطريق بالغ البهاء ، كنا منقسمين على ثلاثة عربات ، الخضرة الصامته تحيط بنا ، عندما وصلنا بداية الطريق المودى إلى المعسكر كان الوقت بعد زوال الشمس وقبل الغروب ، الزوال شديد البهاء فى تلك المناطق ، السماء ملبدة بالغيوم ن الارض معطاءة والهواء معبىء برائحة التراب ، الطريق طويل ومتعرج ، كنا نسير ببطء الدقائق تمضى كأنها ابدية ، قرى مهجورة ، بيوت مهدمة قصة مأساة تحكى مع الزمن ، بقايا اسوار تتحدث بلغة الخراب ، قفزت صورة الماضى دفعة واحدة وأنا اتكىء على قفا السيارة التى تنقلنا ، لقد توقفنا للصلاة ، كنت غارقة فى لسكون الاله المقدس نبتهل وسط صمت الخضرة .
سرنا طول الليل ، كانت ليلة مظلمة وموحشة ، كنت محتمية به بذاك الحبيب الذى تعلقت به من أول لقاء قريبة منه اذداد ثقة به مع كل تقدم لنا . مع الفجر الأول قال سائق سيارتنا لقد اقتربنا من المعسكر وقبل أن يكمل حديثه رأينا دخانا يعلو فى الجو منتشرا كأفاعى تتلوى ، اسرعنا ، عندما وصلنا كان الصراخ لا يحتمل الكل مهلوعا ويبحث عن مخرج ، النساء يتراكضن فى موجات عاتية حاملات الاطفال ، صرخات الاستغاثة المجنونة تذيد من الهلع وتبعث القشعريرة فى البدن ، أبقى عادل اللوارى المحملة بعيدا عن المعسكر ، ذهبوا جميعا لمساعدة الرجال فى اخماد النار كانوا يعملون بسرعة ، أغلبهم لايرتدى سوى السروال لقد كان الحريق فى ساعات الصباح الأولى حاصر الحريق نصف مساكن المعسكر كان الحريق عظيما والدخان كثيفا ، كل ما بالمعسكر يساعد على تكاثر السنة اللهب ، الحصير ، المشمعات المصنوعة من مواد بترولية ، سيقان الشجر الجافه ، بعض الرجال كانوا يحاولون تنظيم عملية اخلاء المعسكر لكن أصواتهم الآمره كانت تبتلعها صيحات الموت والألم وبكاء الأطفال المربوطين إلى ظهور امهاتهم ورعب النساء ، كان الصخب يصم الأذان لم ار أشجع من الامهات فى ذلك اليوم طاقة عجيبة مدت إليهم من السماء لحماية أطفالهن ، كن مجنونات يدفعن الرجال بعيدا رغم دخان الحريق يتوغلن ويبحثن عن الأطفال المتخلفين الضائعين ليسحبوهم خارج المعسكر الهواء عصيا على الجميع ، الرياح تساعد على إنتشار النيران ، كان مشهداٌ مرعباٌ ومتوعداٌ ببؤس عظيم ينتظر ساكنى المعسكر ، احترقت جلود الرجال باشعة الشمس وهم يعملون بخفة شديدة ، أغلب الضحايا كانوا اطفالاٌ وشيوخ اقعدتهم المفاجأة وحجّمت خطواتهم ، لم استطع روية أى من افراد حماتى وسط تلك الفوضى . كنت اساعد بمحاولة تهدئة روعة النساء لقد كن اكثر المتضررين بجلودهن المحروقة وعيونهن الدامعة ووجهوهن التى غطاءها الغبار والرماد واسودت بالهباب ، بؤسهن كان عميقا حتى أن رأفتى تجاه اولئك النسوة ظلت لصيقة بى لأعوام كثيرة برائحتهن المميزه المخلوطة برائحة الخوف والعرق الكريه ، أصواتهن مختنقة وكأنها قادمة من أعماق هاوية الآه محبوسة فى صدورهن وهن منكمشاتعلى أنفسهن ، لقد قضى الجوع على ملامح الحياة عندهن .
أكثر من نصف المعسكر اصبح كومة رماد ، أشلاء محروقة داس عليها البعض ، روؤس حاسرة زال عنها غطاءها ، غبار محتشد بالرماد ورائحة اللحم المحروق . ذهب الحريق بالقليل المدخر لم يبق لديهم حتى إناء يتسولون به صدقة المنظمات . قضينا وقتا طويلا نحملق فى الخراب الذى الحقه الحريق بالمعسكر ، أنا بعينين دامعتين وهو بقلب ينبض الما . لم اكن اعرف احداٌ بالمعسكر لكنى فجأة احسستهم جميعا اهلى ، لىّ صلة وجع معهم نسيت حبى الذى دفعنى لخوض الرحلة .
ستسال لماذا اكتب اليك كل تلك التفاصيل وقد كنتها معى؟ ، ساقول لك رغم حبك الذى مازال يسكننى ، لتعرف لمّا أنا فضلت البقاء مع اهل كلمة على العودة معك إلى الخرطوم ، لقد صار قلبى لأهلى الجدد . كنت احدث نفسى بشقاء اولئك النازحين ،أتذكر تلك الطفلة التى شدت على فستانى عندما كنت تراقبنى من البعد ؟، كانت فى الرابعة من عمرها ، وسخة يغطيها الغبار ، شعرها منفوش إنحنيت عليها ، حملتها بين يدى لم تكن تبكى ، عيناها جامدتين مسلتطين على المعسكر
- هنا كنا نسكن مع أمى
أشارت إلى كومة الرماد . لم أجد كلمات مناسبة لموآساتها ، ماذا أقول وأنا الممتائة بالحزن والشفقة ، أعطيتها قطعة خبز كانت بيدك . أتذكر ؟
لكنها قالت أريد أمى
- حسنا لنذهب إليها
هزت راسها مائلة به إلى الوراء قليلاٌ
- ماتت فى الحريق
قالتها دون دمع ، قالتها ببساطة ، اقتربت منى امرأة تسعينية تتكىء على عصا قالت لىّ اتركيها إنها إبنة بنتى
- دعيها لىّ لأنظفها
سالتنى لماذا ابقيتيها معك
- اريد موأساتهم جميعا فى هذه الطفله
ضممتها إلى صدرى بقوة ساعدتنى كثيراٌ فى ضبط دموعى ومنحى بعض الهدوء ، هيمن داخلى صمت التوابيت لقد غمرنى الأسى
تحلق الرجال حول عادل كانوا متعبين مسودة وجوههم بالهباب ، ثيابهم وسخة بالرماد والتراب والعرق .
الليل توغل ونحن منهمكين فى توزيع الطعام للنساء والأطفال ، الرجال قالوا النساء والاطفال اولاٌ ، أعطيناهم الغطاء والفرش ، بعضهن لم يكن قادرات على الوقوف فى الصف كنت اذهب اليهن حاملة حصتهن ، لقد هدهن الحريق واخريات فقدن اطفالهن ، جلست قربهن لم ار فى حياتى كلها حزناٌ على ملامح الوجه كتلك التى رايتها يوم ذاك على وجوه اولئك النسوة لقد دخلن النار للبحث عن اطفالهن دون جدوى حتى أن إحداهن قد استنفدت قوة عشرة رجال ليتمكنوا من سحبها خارج المعسكر بعد أن فقدوا الامل فى إيجاد طفلها ، لقد فقدن اصواتهن من كثرة الصراخ والعويل على فم احداهن الكثير من الذبد وبقايا دموع مالحة على الخدين ، بقيت قربهن مانحة إياهن بعض الطمأنينة . سهرت معهن إلى أن اخذهن النوم .
قرب الفجر رايتك تقف بعيدا انت ايضا لم تنم
- لم أكن اتوقع منك هذا الكم الهائل من العطف
- لهذا السبب قررت البقاء
بقى بقية افراد الحملة يومين كان عادل خلالها كأفضل رجل رايته يتحمل الألام ويتمتع بنزاهة ومقدرة عالية على قيادة شئون الحملة ، يفتح حقيبته الإسعافية ويساعد الجرحى لحين نقلهم الى المستشفى ، يمنح النساء الرأفة ويبحث فى اكوام الرماد عما يمكن إنقاذه ، كنت اعمل قريبة منه ، اراقبه وكأنى لن احب سواه . وها أنا بعد كل هذه السنوات الثلاث والتى قضيتها فى المعسكر لم ار رجلاٌ يحمل حنانا على اولئك النازحين كالذى كان يحمله .
اميمه عبدالله
.12213.872


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.