بالرغم من البؤس الذي ضرب عدداً من الولايات ومدنها الزواهر، وغيّب النضار في وجوهها، وأسكن السأم في أغوار أحداقها، إلا أن مدينة الأبيض حاضرة شمال كردفان، كذبت كل ذلك، فهي لا تزال نابضة وحيّة وحيية، تضج بالجديد وتفتح ذراعيها للضوء والفجر والشعاع، لم يزل رحمها الولود يهب السودان المبدعين والشعراء وأهل الفن ولطيف الكلم ورقيق الأغنيات ..! كان يوم أول أمس، يوم الأبيض «أب قبة فحل الديوم»، تتراءى المدينة من نافذة الطائرة التي أقلتنا من الخرطوم، وظلال السحب تشرب من ضوء الشمس البعيدة، والأرض خضراء مدت بُسطها الزاهية على امتدادات البصر في كل اتجاه. والذي يعرف المدينة ومعالمها وملامحها، يلمح من بعيد من علو الطائرة، أمكنة وأزمنة لا تذوب.. تبدّت من بعيد الأسواق والمواقف والساحات، وفولة فلاتة وقُبّة إسماعيل الولي وحي القبة وحي الناظر ومئذنة المسجد الكبير ونادي الخريجين وقبة ود صفية وسوق ود عكيفة وزريبة العيش وبقايا مكان قديم لحلواني جروبي وقهوة الأخوان وأطلال باقية لسينما عروس الرمال وفندق جون وحوش عيال زاكي الدين ناظر البديرية.. ومن بعيد خور طقت التي لم تلتئم لها الجراح حتى اليوم وقد فاضت أعين اللواء السفير عثمان السيد بالدمع. هبطنا الأبيض نهار السبت، زمرة من كبار المبدعين في البلاد من الشعراء والأدباء والمطربين والعلماء والصحافيين «السموأل خلف الله وزير الثقافة السابق، واللواء السفير عثمان السيد، والشاعر كامل عبد الماجد، والفنان الكبير الموسيقار محمد الأمين، والدكتور كمال شداد، والشاعر الرقيق إسحق الحلنقي، وحسين خوجلي، والتجاني حاج موسى، والموسيقار الكبير الماحي سليمان، والفريق شرطة محمد عثمان محمد نور، وأحمد عبد الله موسى، نائب مدير بنك بيبلوس، وطارق عطا صالح نائب سكرتير عام الاتحاد العام لكرة القدم، وضياء الدين بلال رئيس تحرير السوداني، ومحمد عبد القادر نائب رئيس تحرير الرأي العام و«الجنرال الكاتب الصحفي» أحمد طه، وأبو عبيدة حواية الله، والصحافي المخضرم محمد حسين خضر، وعاطف دانيال مكاريوس وديباك أحد هنود أمدرمان، وعوض مكي، ولاعبي الكرة من الهياثم هيثم طمبل، وهيثم شوشة، وهيثم كمال، وهيثم السعودي وغيرهم، وفرقة الأستاذ محمد الأمين» وعدد آخر من المبدعين، كانوا كلهم على متن طائرة ميدرلاين التي أجّرتها سودانير، ورابطة أبناء محلية شيكان في الخرطوم. كلنا كنا في دعوة كريمة لحضور احتفالات مدينة الأبيض بافتتاح عدد من المنشآت الجديدة في المدينة وخاصة المنتجعات السياحية والمراكز الثقافية والصالات الاحتفالية الضخمة التي هي من استثمارات أحد أبناء الأبيض من رجال الأعمال النابهين «عماد الفكي» الذين استثمروا في الثقافة والمجالات السياحية والاجتماعية والرياضية، وأعدت المدينة أضخم احتفالات كأنها مهرجان فيه زفّة من الألوان والأطياف لا يتكرر أبداً. فمن المنتجعات والنادي الثقافي والمنتديات والحدائق العامة الجديدة إلى ملاعب السداسيات الحديثة، كانت سهرة المدينة على رموش السحاب وضوء النجوم التي لم تغفُ أبداً، بدأت ليلة ثقافية فنية في صالة حديثة تضاهي صالات الخرطوم الفخيمة، وتبارى الحلنقي وكامل عبد الماجد وحسين خوجلي والتجاني حاج موسى وشاعر الأبيض الوسيلة عبد الرحمن وعدد من شباب المدينة ومثقفيها في إلقاء القصيد الجميل، كان الجو بديعاً مسقوفاً بالأشجان، خاصة وكامل عبد الماجد يقدِّم تجربته في رشاد وبارا، والحلنقي يعلن أنه رأى الأبيض لأول مرة في عمره الشعري الطويل وكذلك ضياء الدين بلال وهو في أحضان مدينة لم يرها من قبل، ولولا ابتسامات رضا هانئة للدكتور كمال شداد لقال الناس إن في قلبه شيئاً من حتى. لكن تُوِّجت الليلة بغناءٍ لن يتكرر أبداً للموسيقار الكبير محمد الأمين الذي قال له حسين خوجلي «كنت تغني لنفسك فقط هذا اليوم..» غنى كأن لم يغنِ من قبل، إغنيات الستينيات من الزمن الخضيل الجميل، ضجّت معه الأبيض وانتشت... ولا يكاد أحد أن يوصف انفعال الناس ولوحة الغناء الجميل، وقال لي الماحي سليمان وهو غارق في حالة شعورية اهتيامية كمتصوف عتيق: « ود الأمين هو مهندس الموسيقا السودانية بلا منازع، خلط بين الأصالة في اللحن والإيقاع السوداني والمدرسة الموسيقية الحديثة في كل العالم وأخرج مزيجاً مدهشاً من الألحان..» ومع إطلالات الفجر في اليوم التالي لم تنم المدينة يطفر الفرح من مآقيها، وهي تودعنا في أسرع وأجمل قافلة فنية وأدبية وصحفية تزور مدينة... وودعنا الأبيض وهي تنام على وسائد من عبير. لو علم الناس ما في الولايات والمدن من إبداع، لكانت في كل يوم هناك قافلة لولاية من الولايات... ولكان ود الأمين آخر من تبقى من جيل العمالقة هو القاسم المشترك في قلوب الناس ومحبتهم وصياغة الوجدان الوطني ورتق نسيجه الثقافي والفني.. ليت كل الولايات والمدن تفعل ما فعلته الأبيض فلا يزال هناك نبض جميل في عروق هذا البلد الذي أفسدته السياسة.