لقد عرف العالم أنواعًا لا تكاد تُحصى من الفنون القتالية على مر التاريخ.. وعرف أنواعاً كثيرة جداً من الأسلحة.. ومن الخطط العسكرية.. وأنواعاً من الأساليب القتالية.. وأساليب إدارة المعارك وأصنافاً من الخدع العسكرية.. كما عرف الكثير من العبقريات العسكرية على مر التاريخ.. وكل ذلك يدخل تحت دائرة ما يسمى بفن الحرب أو الإستراتيجية العسكرية أو العقيدة القتالية.. إلا أن التاريخ لم يعرف ولم يجرب أشمل ولا أكمل من الرؤية العسكرية والعقيدة القتالية الإسلامية.. لقد عرف التاريخ أرتالاً من القادة العسكريين.. ومن عباقرة الإستراتيجية العسكرية والقتالية، وكان فن القيادة وفن صناعة النصر مما حفل به التاريخ.. ويمكن أن نعدد أسماء كثير من القادة والدهاة الذين حققوا انتصارات أدهشت الدنيا كلها.. من أولئك الإسنكدر المقدوني «356 323» وعاش قبل الميلاد ومات وعمره «33» عاماً ولكنه لم ينهزم في معركة واحدة طيلة أحد عشر عاماً من القتال المتواصل وهناك هانيبال القائد القرطاجي «247 183» قبل الميلاد والذي كان يرسل الرعدة والقشعريرة في أوصال الإمبراطورية الرومانية بمجرد تحركه نحوها.. وهناك قورش الأكبر مؤسس الأمبراطورية الفارسية 590 529 قبل الميلاد وهناك بطرس الأكبر «1671 1725» ميلادية وهو أعظم قادة الأمبراطورية الروسية في العصر الحديث وهناك شارلمان «وتيمور لنك «1336 1405» وهناك فرنسيسكو بيزارد «1475 1541» الذي أخضع أمريكا الجنوبية للسيطرة الإسبانية مع أنه كان ابنًا غير شرعي لقائد إسباني وهناك سيمون بوليفار «1783 1830» وهو الذي نقض غزل بيزارد بعد ثلاثة قرون وقاد حرب الاستقلال عن إسبانيا ما بين عامي 1810 1819 وأخذت بوليفيا اسمها من اسمه. وبالطبع هناك هتلر ونابليون بونابارت ويوليس قيصر وجورج واشنطن وأسماء أخرى كثيرة في القديم والحديث نيسلون ومونتغمري وروميل ولقد تعمدنا ألا نذكر أياً من أسماء القادة الإسلاميين لأن العبقرية القتالية الإسلامية تختلف اختلافاً كبيراً في طبيعتها وفي مكوناتها عما سواها من العبقريات والإبداعات. إن الأمم الأخرى تتكلم عن فن الحرب. وكسب المعارك ودحر العدو.. وأساليب القتال.. وأنواع الأسلحة حتى أعظم المفكرين في التاريخ لم يتحدثوا إلا عبر هذه المصطلحات. تسن تزو نفسه «Tsun Tzu» وهو صاحب أشهر مؤلف في الفنون القتالية أسمى كتابه فن الحرب.. لقد اشتهرت أسماء قتالية كثيرة وقادة عباقرة في مسيرة الإسلام.. ولقد وضع كل واحد منهم بصمته الشخصية في السجل القتالي للأمة الإسلامية، ومن أشهر هؤلاء خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، وابو عبيدة بن الجراح وفي العصر الحديث عمر المختار ومحمد أحمد المهدي وغيرهم وغيرهم. إلا أن مؤسس المدرسة الإسلامية في الفن العسكري هو بلا شك رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي تخطى بها جميع النظريات والرؤى بل والعبقريات القتالية التي عرفها الناس عبر التاريخ. إن الإسلام ونبي الإسلام يقدمان للدنيا شيئاً مختلفاً تماماً، ومتفرداً تماماً، ليس إستراتيجية عسكرية ولا هو عقيدة قتالية.. إنه شيء آخر اسمه علم الانتصار.. إن العبقرية القتالية تسعى وتجتهد لتحقيق الانتصار والإستراتيجية العسكرية تبحث في أسرع الوسائل والطرق والأسلحة التي تحقق الانتصار.. ولكن الأمر مختلف في الإسلام.. فالإسلام يقدم شيئاً اسمه علم الانتصار.. وعلم الانتصار علم تطبيقي له قواعد وأسس ومقدمات ونتائج وهو أشبه ما يكون بالمعادلة الرياضية أو المعادلة الكيمائية وأبلغ ما في هذا العلم من الحقائق وأجلى ما فيه من الأسس أنه علم محايد تماماً.. لا تتحقق نتائجه إلا بتحقق الظروف المطلوبة والمعلومة تماماً مثل المعادلة الكيميائية.. إذا تغيرت درجة الحرارة والضغط تغيرت نتائج العملية، مع أن المواد المتفاعلة هي ذات المواد.. وإن من الأشياء المدهشة والنادرة أن الاسنكدر المقدوني حارب لمدة إحدى عشرة سنة ولم ينهزم قط.. ولكن على ضوء ما أجملناه.. حتى الآن.. فيما يتعلق بعلم الانتصار فيمكننا أن نتنبأ - قبل الحدث - أو نبني بعد الحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهزم قط في كل معاركه التي خاضها في حياته حتى صعدت روحه إلى الرفيق الأعلى.. وربما ظن بعض الناس أن المسلمين هزموا في موقعة أحد والذي كان يقودهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين هو علم الانتصار؟؟ إن ذات العلم يتحدث عن أنواع الانتصارات ومنها الانتصار المؤقت.. أو الانتصار المتوهم مثل الذي حدث لجيش الكفار بقيادة أبي سفيان وكان نتيجة لخطأ الرماة في ترك مواقعهم ومخالفة الأوامر. وهذا هو عين ما يقرره هذا العلم.. لقد اختلت المعادلة مؤقتاً فاختل الميزان مؤقتاً.. ثم سرعان ما استقام واستقل!! وهنا لا شواهد على أن المسلمين لم ينهزموا في أحد.. 1/ لقد عاد المسلمون ومعهم أسيران أبوعزة الجمحي وقتله عاصم بن ثابت ومعاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية جد عبد الملك بن مروان لأمه قتله زيد بن حارثة وعمار بن ياسر بعد حمراء الأسد. 2/ جاءت غزوة حمراء الأسد بعد أحد بيوم واحد حيث طارد جيش المسلمين جيش المشركين حتى لحق به بحمراء الأسد.. ولم يخرج في غزوة حمراء الأسد من المسلمين إلا الذين شهدوا أحد.. أي أن حمراء الأسد ليست موقعة جديدة.. بل هي امتداد لغزوة أحد.. فكيف يطارد المنهزم المنتصر ويعسكر على بعد أميال قليلة منه ثم لا يكر عليه ليقضي عليه القضاء المبرم.. لقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج في جيش حمراء الأسد إلا من شهد معهم أحداً.. ولم يأذن إلا لجابر بن عبد الله لأن والده خرج في جيش أحد وأمر جابراً بأن يتخلف لأن له اخوات وليس لهن أحد سواه.. وكل ذلك يدخل في علم الانتصار. إن المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو أعظم قائد عسكري عرفه التاريخ لم يكن يؤسس لعبقرية قتالية ولا إستراتيجية عسكرية ولكنه كان يضع اللبنات الأولى لعلم الانتصار الإسلامي.. ثم نأتي إلى بدر وما أدراك ما بدر!! لقد كان قبلها غزوات وسرايا ولكن بدراً كانت هي أم معارك الإسلام.. وفي بدر تبدأ تجليات علم الانتصار الإسلامي بشرطيه الكوني واللدني.. والشرط الكوني يتمثل في الأخذ بالأسباب والشرط اللدني يتمثل في الالتزام بطاعة الله. ولا يتحقق الانتصار إلا بعد الأخذ بهذين الشرطين إلى أقصى غاياتهما.. إن أقصى غاية الأخذ بالأسباب تكون في بلوغ حد الاستطاعة و«أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل» وهو تعبير رباني بلغ حد البلاغة ذلك أنه شمل حدي الاستطاعة الأدنى والأعلى.. وأقصى غاية الالتزام بطاعة الله يظل مضماراً مفتوحاً يتسابق فيه ويتنافس حوله المؤمنون.. وقد يخفى حيناً عندما يكون الخفاء أعبد لله.. وقد يظهر حيناً عندما يكون الإظهار أجدى للأسوة والقدوة والاتباع.. ونواصل.