تُعتبر ملحمة كرري التي وقعت بشمال أم درمان في يوم الجمعة الموافق «2» سبتمبر «1898» بين قوات أنصار الثورة المهدية السودانية بقيادة الخليفة عبد الله التعايشي والقوات الإنجليزية الغازية بقيادة كتشنر باشا من أشهر معارك التاريخ السوداني في القرون الماضية فقد خلفت لنا قيماً وتاريخاً نستهدي به في ظلمات الطريق ووحل وضباب التضليل المتعمَّد في ظل الاستعلاء الاستكباري لدول الهيمنة الكبرى وقتل تاريخ الشعوب. وفي هذه الذكرى التي تصادف اليوم الأحد 2 سبتمبر نفتح هذا الملف لنذكِّر بتلك البطولات والتي يجب أن نقتدي بها في ظل التربص المستمر والإحاطة التي تحاك بنا من كل الجهات. التقت «الإنتباهة» السيد مهدي محمد السيد الخليفة عبدالله التعايشي حفيد خليفة المهدي والمهتم بتاريخ المهدية ليروي لنا في هذه المساحة تلك العبر والمعاني عبر هذا اللقاء القصير: جولة قام بها: عبد الله عبد الرحيم متوكل البجاوي محمد الفاتح *س- يصادف اليوم «2» سبتمبر ذكرى معركة كرري التي حدثت في نفس هذا اليوم من العام 1898م.. حدِّثنا عن ذلك؟؟ من المؤسف حقاً أن كثيرًا من المواطنين اليوم يجهلون تاريخ بلدهم، وهم للأسف يعتمدون على ما كان يُنشر من قِبل أقلام المخابرات الإنجليزية والدعايات الكاذبة التي تقلل من شأن البطولات التي قام بها الخليفة عبد الله والوطنيون من جند الوطن وثوار الحق وإشاعة الدين في البلاد وطرد الغزاة والذي تجسد ذلك بصورة واضحة جلية في معركة كرري. * صورة لمجريات المعركة وتشكيلات جند المهدية؟ صلى الخليفة عبد الله صلاة الصبح يوم «2» سبتمبر قبل بدء المعركة ووقف في محل صلاته وهو هضبة غرب جبل كرري وأمامه غور يأتي من غرب الجبل ويتجه إلى الجنوب وينتهي في خور شمبات وكان ترتيب جيشه كالآتي: هضبة الخور الأمامية ينتظم عليها جيش القلعة وهو الحرس الخاص في أربعة صفوف بقيادة الأمير خير السيد ووكلائه بخيت جاموس وبخيت جانقي. ثانيا الراية الزرقاء بقيادة الأمير يعقوب ود أحمد يقف بالقرب من جبل صرغام وتشمل الراية على الخيل والحرابة وانضم إليها كلٌّ من المتقهقرين من موقعة اتبرا ومن يحمل البندقية انضم إلى جيش الكارة أو الملازمية. ثالثاً جيش الكاره بقيادة الأمير إبراهيم الخليل ود أحمد ويتكون من «16» ربعاً وعزز بربعين من الملازمية ولكل ربع أمير ووقف هذا الجيش بين البحر وسر غام متجهين إلى الشمال.. رابعاً الملازمية بقيادة الأمير عثمان شيخ الدين جنوب الجبل ويحملون البنادق الخفيفة، خامسًا الفشخان وفوهته أوسع من المرتين بقيادة الأمير السنوسي وو دبدر، ورصاصته تنفجر عند ملامستها لأي جسم تصيب واحدًا فأكثر ويقف جنوب الملازمية، الراية الخضراء الخليفة علي ود حلو بقيادة عبد الله ود أحمد أبو سوار وتقف تجاه البحر بين الفشخان والراية الزرقاء.. والأمير عثمان دقنة يرصد في خور شمبات.. تحركات العدو المتسلل إلى أمدرمان ومعه حَمَلَة السيوف. - وماذا عن قوات الإنجليز؟؟ تاريخيًا كرري من أعظم المعارك التي جهز لها الإنجليز الجيوش وقادتها فقد جاء هؤلاء في حوالى «15» باخرة نيلية تضاء بأكثر من «45» ألف نور للإضاءة الليلية، كان جيشًا جاهزًا بكامل العتاد والعدة وكانوا جاهزين للهجوم الليلي وينوون الانقضاض على أم درمان ليلاً ولكن حنكة الأنصار جعلوها نهاراً بالمباغتة التي عزوها للجيش الغازي ولكن للأسف انتصرت قوة السلاح فالجيش الإنجليزي جاء للإبادة كما أكد قائدهم. *- بداية المعركة؟ رتب الخليفة جيشه على هذا النحو الإستراتيجي وحاصر العدو أمامه في خطة لا تجعل له مجالاً للفرار، وأول اشتباك مع العدو وقع مع قيادة الأمير إبراهيم الخليل ود أحمد وكان العسكر من خالص إنجليز أسكتلندة فقُتل قائدُهم فتزعزعت أقدامهم وولوا مدبرين محتمين بالوابرات التي أمطرت جيشنا بالمدافع الثقيلة والخفيفة وساعدهم أيضًا جيش من المشاة واستشهد الأمير الخليل ود أحمد وستة من أمرائه وعدد كبير من الأنصار نالوا الشهادة وذلك كان مع طلوع الشمس. ثم رأى الإنجليز أن تعداد جيش الأنصار كان كبيرًا ولن يستطيعوا قهرهم إلا باستخدام سلاح المكسيم وكان وقتها من الأسلحة المحرمة ويستطيع أن يحصد المئات في ثوان وبحق كانت إبادة جماعية، فبحسب الإنجليز أنفسهم أن عدد قتلاهم في هذه المعركة وحدها أكثر من ثلاثين ألفاً. *- وكيف انتهت المعركة؟؟ بعد أن استُشهد عددٌ كبيرٌ من قوات الخليفة تقريباً أكثر من «15» ألفً من أصل «40» ألف جندي ونجد أن عدد الشهداء الذي جاء بحسب الإنجليز مبالغ فيه، قام بعض علماء المهدية ومنهم محمد ود البدري الذي قال للخليفة إن سلاح العدو المستخدَم سلاح متطور ولا يمكن أن تجعل الجيش كله يستشهد في هذه المعركة، وأوعز للخليفة بأن ينسحب وينضم لبقية قواته في المناطق الأخرى ويستعد للمعارك القادمة، فالمعركة لم تنتهِ بعد، وبالفعل انسحب الخليفة وأعد لمعركة أم دبيكرات التي استشهد فيها من بعد.. وحقيقة كرري كانت عبارة عن مدرسة جديدة لفنون القتال لا تقل عن المعارك التي قيل عنها الكثير في أوربا كما روَّج لها إعلامهم مثل نورماندي وحرب العلمين ووارسو وغيرها التي ما زالت تمجد إعلاميًا هناك والشيء الغريب أن إعلامنا غافل تماماً عن تاريخنا. * - ماذا نستلهم من معركة كرري؟ الرد على هذا السوال قاله كتشنر نفسه قائد القوات الغازية، فانظر ماذا قال: إني أحارب رجالاً لا يهابون الموت، وقال تشرشل الصحفي المرافق لجيش العدو : إنا تفقدنا موتى جيش الخليفة ولم نجد منهم رجلاً قُتل من الخلف بل وجدناهم جميعاً مصابين من الأمام، ومعنى هذا يدل على استبسالهم وثباتهم في الجهاد، فانظر إلى قول هؤلاء في حقنا فقد أثبتوا أن جيش كتشنر لم يدخل إلى هذه البلاد بسهولة ويسر وأن طريقه لم يكن مفروشاً بالورود كما يزعم البعض فمعركة كرري جسّد فيها السودانيون معاني الإباء والشموخ والكرامة حقاً وأذاقوا الإنجليز صنوفًا من التضييق وألوان القتال ولكن انتصر في النهاية السلاح الحديث على التقليدي الذي كان بحوزة الأنصار.. وكذلك نستلهم من هؤلاء الأفذاذ الثبات على المبدأ وانها أرست القيم الخالدة للوطن وكانت هذه القيم أمانة ومبادئ ورسالة عاشوا واستُشهدوا عليها وكانوا في رحاب الله. * - على ذكر ما نستشهده من التاريخ عن المهدية وأدوارها في رفعة شأن المجتمع وبما يلاحظ الآن، هل انتهت المهدية؟؟ المهدية لم تنتهِ فهي باقية فينا وآثارها لا تزال معيشة فقط نريد من الإعلام أن يهتم بتلك الآثار ويعمل بما يعرف عن «ذاكرة الأيام» و«حدث في نفس هذا اليوم» الشيء الذي يُعمل به في أوربا، وبدلاً من الاستشهاد بالتاريخ الأوربي وتاريخ غيرنا يكون تاريخنا هو المتداول في هذه المساحة ويجب سودنتهما.