تظل أسرار الانقلابات العسكرية في السودان مدفونة مع أصحابها في القبور أو تبقى في ذاكرة من شارك فيها وعاصرها واستطاع بطريقة أو بأخرى الإفلات من أي عقوبة تواجهه، وتبقى تلك الأسرار والخبايا خفية إما خوفًا أو حرصًا أو لأسباب أخرى يعلمها صاحبها، الخامس من سبتمبر «1975» كان ثاني انقلاب على حكومة الرئيس جعفر نميري ولكنه لم ينجح وتم القبض على كل من تورط أو كانت له علاقة به.. تم إعدام كل المنفذين والمخططين باستثناء اثنين هما المخطط الرئيس لحركة «5» سبتمر القاضي عبد الرحمن إدريس والقيادي بالأمة بكري عديل.. ماذا حدث في هذا اليوم وكيف فشل الانقلاب؟ يوم الانقلاب بدأت الأحداث في الصباح الباكر في يوم الجمعة الخامس من سبتمبر «1975»، وفي السادسة والنصف صباحًا، أذاع المقدم حسن حسين عبر إذاعة أم درمان بيانه الانقلابي بعد أن استولى على الإذاعة دون أي مقاومة معلنًا نهاية مايو، وحل مجلس الوزراء، والاتحاد الاشتراكي السوداني، والأمن القومي، ومجلس الشعب، وأعلن إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، وأكد حرية الصحافة، واستقلال القضاء، وحرمة الجامعات والغى المراهنات الرياضية. يُذكر أن قائد الانقلاب المقدم حسن حسين جاء على ظهر دبابة ومعه جندي واحد بخلاف سائق الدبابة ودخل الإذاعة وألقى بيانه ثم خرج وترك الدبابة التي جاء بها لتحرس الإذاعة وذهب إلى القيادة العامة ولكن ضابطين وهما عبد الرحمن شامبي وحماد الإحيمر أخذا الدبابة وذهبا بها إلى سجن كوبر لإطلاق سراح المعتقلين والمحكومين السياسيين وتمكنا بالفعل من إطلاق سراح بعضهم وفي هذه الأثناء دخل قائد الانقلاب في معركة مع القيادة العامة واحتدم الأمر حتى أنه أُصيب إصابة بليغة تم على إثرها اعتقاله وإرساله للعلاج بحراسة مشددة. جزء من خطاب نميري بعد إفشال الانقلاب تحدث الرئيس نميري بخطاب عبر الإذاعة قال فيه «هزمنا الشيوعيين، سنة 1971، وهزمنا تمرد الإخوان المسلمين سنة 1973، ومعهم نقابات العمال، وجامعة الخرطوم» لم يكن عدد الضباط الذين اشتركوا في محاولة الانقلاب اليوم كافيًا لإنجاحه، لم يكن هدفهم الحكم، ولكن هز النظام، ووقف التقدم نحو الاشتراكية، كذلك تحدث نميري عن تفاصيل الانقلاب العسكري واتهم الجبهة الوطنية وسمى أسماء، منها أحمد زين العابدين، وقال إنه كان يريد أن يكون رئيسًا للوزراء، وعبد الماجد أبو حسبو. وفيليب عباس غبوش الذي وصفه نميري بالعميل لإسرائيل. والشريف الهندي من الاتحادي الديمقراطي، وبابكر كرار من الإخوان المسلمين، والصادق المهدي وعمر نور الدائم من حزب الأمة، وعز الدين علي عامر من الحزب الشيوعي. تورط الأحزاب مع تلك المحاولة الانقلابية أعلنت الحكومة صراحة عن تورط عدد من الأحزاب فى التخطيط لهذه العملية، فقد قال النميري إن الجبهة الوطنية وراء الانقلاب، وهي التي تضم الأحزاب التقليدية: الأمة، والاتحادي الديمقراطي والإخوان المسلمين.. ونشرت الصحف في وقتها صورًا لعدد من القيادات في هذه الأحزاب أبرزهم الصادق المهدي الذي كان وقتها خارج البلاد.. وتم اعتقال عدد من قيادات حزب الأمة من بينهم العميد «م» عبد الرحمن فرح وقد تم اعتقال عدد من قيادات الحزب في وقتها واستمرت التحقيقات والاعتقال لمدة عام وتم الإفراج عنهم وذلك لعدم ثبوت مشاركتهم في الانقلاب وهذه الاعتقالات كانت بمثابة عمل احتياطي من الحكومة.. واعتبر العميد فرح ل«الإنتباهة» أن الانقلاب كان قائمًا على الطريقة العنصرية، فقائد الانقلاب كان أخوه اللواء عثمان حسين قد اعتقله نميري وكان على علم بفكرة الانقلاب ولكن لا يعلم بالخطة. بكري عديل يكشف أسرارًا مثيرة القيادي بحزب الأمة بكري عديل كشف خلال حديثه ل«الإنتباهة» أن الإخوان المسلمون كانوا مؤيدين للحركة وأنه وقيادات كثيرة بحزب الأمة على علم بكل ما خُطِّط بحركة الخامس من سبتمبر، وكان الانقلاب في انتظار موافقة القيادة السياسية، وأضاف: «كان عليَّ أن ألتقي بالمهدى وعمر نور الدائم في لندن وحتى لا أُثير الشك توجهت إلى جدة ثم إلى بيروت ومنها إلى لندن والتقيت المهدي وعمر واجتمعنا وتم الاتفاق على كل ما خُطِّط له وحددنا السلاح الذي ستنفَّذ به العملية.. وضم الاجتماع محمد موسى إدريس الذي كان خروجه من السودان إلى لندن اشبه بالمستحيل ولكن بمساعدة رئيس جهاز الأمن عمر محمد الطيب استطعنا إخراجه إلى ألمانيا بحكم أن زوجته ألمانية ومن ثم إلى لندن.. ويضيف عديل: يوم الانقلاب كان من المفترض أن نسمع صافرة إنذار في الساعة الرابعة صباحًا ولكن لم نسمع الصافرة أو البيان في الإذاعة فتحركت بعربتي وتوجهت إلى القيادة العامة ووجدت أن جماعتنا استولت على القيادة واستغربت عدم إذاعة البيان حتى يعرف الشعب بالانقلاب.. توجهنا أنا والنقيب حماد الإحيمر وبعض من العساكر نحو الإذاعة وهناك التقينا القائد العام للقوات المسلحة بشير محمد علي والرائد أبو القاسم محمد إبراهيم وتم توقيفهم من قبل الإحيمر ودار حوار بينهم وقالوا له «انتو دايرين شنو نحنا بنديكم العاوزينو» واستمر الحوار حتى أطلق حماد سراحهم وذلك جعلهم يتوجهون للقيادة العامة ليرجع بعدها أبو القاسم إبراهيم بقواته نحو الإذاعة حيث قتل حمَّاد ومن معه وتم القبض على حسن حسين. إخفاء الأدلة يواصل بكري حديثه عن يوم الاعتقال «حينها أخبرني صديق في اللجنة العسكرية بأن جهاز الأمن يبحث عني وطلب مني أن أخفي كل ما يتعلق بالانقلاب، وبالفعل أحرقت كل المستندات والأوراق التي تثبت تورطي لكن لم أستطع إخفاء عباس برشم وبشير آدم رحمة وإبراهيم السنوسي المطلوبين بالاسم من قبل أجهزة نميري.. استطاع برشم الهروب من المنزل بمساعدة والدتي ولكن لسوء حظه تم القبض عليه.. وبعد يومين تم اعتقالي وتم تفتيش المنزل ولم يعثروا على شيء وتم ترحيلي إلى سجن أم درمان وأقمت مع عبد الرحمن إدريس في غرفة واحدة وكان ذلك في اوائل أيام رمضان وقد هرب ولم أشعر بهروبه وقد ترك لي سبحة ومصحفًا. ويواصل بكري الحديث قائلاً: «تمت المحاكمة بعد سبعة أشهر من السجن وحُكم عليّ بالإعدام لكن رئيس القضاء في وقتها مولانا خلف الله الرشيد رفض الحكم وذلك لعدم وجود أدلة وضع بينة الشاهد وانتقلت القضية إلى المحكمة العسكرية التي أيدت الحكم وتم إرجاعها إلى القضاء الذي تمسك برفضه للحكم. وسُئل حسن حسين عن معرفته بي قال إنه يعرف العائلة ولا يعرفني شخصيًا وكان هذا أحد أسباب براءتي من حبل الإعدام.. وكانت هي المرة الثانية التي التقيه فيها أما المرة الأولى فقد كانت في المستشفى بعد إصابته والقبض عليه. قصة هروب مخططي الانقلاب عبد الرحمن إدريس أو القاضي الهارب كما أطلق عليه نظام نميري هو المخطط والمدبر لهذه الحركة والترمومتر لها، وذلك بحسب إفاداته لصحيفة الصحافة الصادرة في العام «2000» في حوار توثيقي معه قال في أواسط العام «1975» بدأنا في التفكير في تكوين الحركة التي نبعت من الجبهة القومية السودانية التي تأسست «72» وهذه الحركة هدفت لرفع الغبن عن الشعب السوداني ومعي لفيف من الرجال أسهموا في دعمها بجهدهم وأرواحهم أمثال مادو رحمة ومعتصم التقلاوي وعبد المولى أحمد شحاتة وغيرهم. ويروي القاضي قصة نجاته من حبل الإعدام قائلاً: «تم اعتقالي بعد ثلاثة أيام من فشل الانقلاب 8/9/1975 وبالفعل بدأ التحقيق معي وفي يوم من أيام رمضان بينما كان الناس جميعًا في السجن يهمون بتناول وجبة الإفطار في الساعة السادسة مساء بعد أن وقف الناس للصلاة تسللت من السجن بهدوء تام لم يلحظني أحد وخرجت من السجن حيث ذهبت إلى أسرة معينة كنت على صلة بها وأقمت معهم ثلاثة أيام وكانت المطاردة عنيفة ولم يتركوا أحدًا له علاقة معي إلا واستعملوا معه العنف الشديد، بعدها ذهبت إلى قرية من قرى الجزيرة ومكثت فيها فترة قصيرة ثم ذهبت إلى سنار وبعدها إلى خارج السودان.. ونفى بشدة أن تكون حركة «5» سبتمر عنصرية، وقال: صحيح أن معظم أعضاء الحركة من أبناء غرب السودان لكنها ليست عنصرية وإنما كانوا أقرب لفكر الحركة وأكثر توافقًا مع برامجها وهي كانت حركة قومية ونتاجًا لفكرة إسلامية فكل قادتها متدينون فشخصي الذي كان في دور المنظر والمخطط كان ينطلق من منظور إسلامي.تم الحكم بالإعدام على «23» شخصًا من المنفذين للانقلاب وتم تنفيذ الحكم على «22» بعد هروب القاضي عبد الرحمن إدريس وتم دفنهم بوادي الحمار بعطبرة وهم: المقدم حسن حسين والرائد حامد فتح الله ونقيب محمد محمود التوم، ملازم حماد الإحيمر وملازم طيار القاسم هارون والسيد عباس برشم رقيب مجذوب النميري، عريف أحمد المبارك، رقيب أول بابكر عز الدين حران، مساعد علي مندال أغبش، رقيب محمد شايب، رقيب إدارة إسماعيل كوسا، رقيب إدارة محمد سورين كمال، وكيل عريف الجزولى كمندان، فضل الله الدود، وكيل عريف محمد إبراهيم كوتيس ورقيب محمود آدم ورقيب رضوان بابكر ورقيب أول مقدم إدريس وعريف الشفيع عجبنا، ورقيب أول رحمة رحوت الانقلاب.. أسباب الفشل أبرز أسباب فشل الانقلاب بحسب إفادات عبد الرحمن إدريس هو إلغاء الخطة العسكرية التي اعتمدت على عدم أهمية الأجزاء الشمالية التي كانت بها مدرسة المشاة والقاعدة الجوية الحربية ولم ترسل لأنصارنا هناك القوة الصغيرة التي اتفق على إيصالها لهم، وذلك لتأمين الموقف شمال العاصمة ومنع أي تحرك واستطاع الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم أن ينفذ إلى هناك القوات الموجودة بالتحرك وضربنا بها وأحدث ذلك ربكة خاصة في الإذاعة. ويرى القيادي بحزب الأمة بكري عديل أن سلاح المدرعات من المنطقة الشمالية كان سببًا في ضرب الانقلاب إضافة إلى تساهل الملازم حماد الإحمير حينما واجه القائد العام للقوات المسلحة بشير ومعه أحد الضباط وتم إيقافهم في الإذاعة.