أدخل فينا أهل سوق الكرين ثقافة لغوية جديدة متعدِّدة الألفاظ وكثيرة المترادفات حتى إن لغتنا العادية انحرفت.. وجاءتنا تسميات ظل يردِّدها الكبار والصغار حتى صارت جزءاً من معارفنا.. مثلاً «ليلى علوي» أصلاً فنانة مصرية لها «قواعد» جماهيرية ولكنها عندنا في السودان عبارة عن مركبة تنتجها شركة تويوتا العالمية تحت فئة لاندكروزر.. وجاءت من بعد ليلى علوي سيارة أخرى اسمها تاتشر تيمناً بالسيدة الحديدية مارقيت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا التي اشتهرت بأنها امرأة «قاهرة» لدرجة شن الحرب ولو في أقاصي الدنيا، ويؤخذ لها أو عليها إعلان الحرب للاستيلاء على جزر الفوكلاند وهي مستعمرة بريطانية تبعد آلاف الأميال عن لندن.. والسيارة تاتشر أطلق عليها هذا الاسم «ناس كرين بحري» وعلق هذا الاسم بهذه السيارة بالذات وعُرفت به في كل الأوساط الخاصة في أوساط قوات التمرُّد والقوات المسلحة النظامية وحتى عند القطاعات المسلحة في دول الجوار.. ولا أدري وجهاً للشبه بين تاتشر السيدة وتاتشر السيارة اللهم إلا إذا قلنا إن الاثنتين عبارة عن «عضام ساكت».. بينما يقال إن وجه الشبه بين ليلى علوي الآنسة وليلى علوي السيارة هو امتلاء «الهيكل» في كل منهما.. ومن الثقافة اللغوية بتاعت ناس الكرين جاءتنا كلمة «البُودِنْ» وهو تحريف للكلمة الإنجليزية body ويقصد به الجسم الرئيس.. وغالباً ما يستعملون هذا اللفظ ليقولوا مثلاً: إن جسم السيارة جيِّد ولكن تنقصها الماكينة فيقولون: «البُودِنْ كويس لكن دايرة شمبر أو دايرة عمرة» ونقفز من «بودن» عربات الكرين، إلى بودن الحركة الإسلامية السودانية التي عايشناها منذ نهاية الخمسينيات وتفاعلنا معها في الستينيات لنستشعر بدايات انقسامها في السبعينيات والثمانينيات وأخيراً لنكون شهداء على «مفاصلاتها» وانشقاقاتها في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة وعلى رأي ناس الكرين فإن للحركة الإسلامية «بُودِنْ» ولها أجنحة.. وإذا كان البُودن سليماً ومتماسكاً فلن يضيره أن الأجنحة قد تصاب بالأذى والهزال.. وما دام أن البُودن نضيف فلا بد أن يأتي اليوم الذي يتم فيه التصالح بين الأجنحة اعتماداً على قوة ضغط البودن على هذه الأجنحة.. وإذا لم يكن أمر المفاصلة بين الشعبي والوطني مسرحية يعاد تكرارها تحت شعار: «أذهب إلى السجن حبيساً وتذهب إلى القصر رئيساً» فلا بد أن الوقت قد حان لكي يتحرك البودن وينادي على الأطراف بأن تتحد في وجه التحديات الماثلة «أم الجناحين».. ولا يحتاج منسوبو البودن «النضيف» أن يذكّروا الجناحين بأن التغيير القادم لن يفرق بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي ولن يفرِّق بين علي عثمان أو عبد الله حسن أحمد ولن يفرق بين دكتور نافع أو دكتور بشير آدم رحمة... فهؤلاء كلهم عند «العرب صابون».. وكلهم أحمد وحاج أحمد، والانقلابيون القادمون سواء كانوا من الأجانب الجنوبيين أو عملاء الجنوبيين من أمثال عرمان والحلو أو حتى من حزب الأمة أو من الشيوعيين أو من تجمع جوبا أو الجبهة الثورية فهؤلاء ينظرون «للبودن» والأجنحة على قدم المساواة.. ولن يفرق هؤلاء بين ما هو مؤتمر شعبي وما هو مؤتمر وطني فكلهم عندهم أعداء.. ولن يقنعني أحد بأن فاروق أبو عيسى أو ياسر عرمان عندما يستلم السلطة لا قدر الله سيكون أكثر شفقة أو رحمة بالترابي منه بعلي عثمان أو نافع علي نافع... وعلى كل حال دعونا نقول إن هناك فرصة سانحة جداً للتصالح والتصافي لإعادة «اللحمة» للحركة الإسلامية في ظل نجاح الثورات الإسلامية في البلدان العربية... هذا بالطبع إن لم تكن المفاصلة أصلاً كانت مسرحية جيدة السيناريو والإخراج تمت هندستها بالدرجة التي لم يعرفها «الكحيانين» من أمثالنا وفاتت على الشطار وانطلت على «الحرفاء» ولم يفهمها إلا القليلون جداً من المقربين... ونأمل أن يكون ذلك كذلك... كسرة: «يا جماعة الجنوبيين ديل قاعدين لحدي هسع بيعملوا في شنو؟! يا جماعة الناس ديل معظمهم «خلايا صاحية»... يا جماعة كلامي دا أحسن ما تابوهو»..